أدبيات الصحيفة

آية و فنار (النعيم الأبدي)

 

نسعد دوما بالإبحار في بحر الجمال حيث لاعين رأت و لا أذن سمعت و لاخطر على قلب بشر، الجنة ووصفها و ما أدراك ما الجنة..
في سورة الحجر، يقول تعالى:( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) ۞ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50))..
ما أروع وصف القرآن، أجمل الكتب بيانا وأروعها نظاما..
يخبرنا تعالى و يشوقنا إلى حال المتقين الذين اتقوا ولم بطيعوا الشيطان وما يدعوهم إليه من جميع الذنوب والعصيان { فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } قد احتوت على جميع الأشجار وأينعت فيها جميع الثمار اللذيذة في جميع الأوقات، وفي تفسير القرطبي ذكر بأن في جنات أي بساتين، وعيون هي الأنهار الأربعة : ماء وخمر ولبن وعسل .
و يدخلونها بسلام آمنين كما ذكر المولى سبحانه و تعالى، بسلام أي بسلامة من كل داء وآفة ، وقيل : بتحية من الله لهم ، آمنين أي من الموت والعذاب والعزل والزوال.
قال ابن عباس : أول ما يدخل أهل الجنة الجنة تعرض لهم عينان ، فيشربون من إحدى العينين فيذهب الله ما في قلوبهم من غل ، ثم يدخلون العين الأخرى فيغتسلون فيها فتشرق ألوانهم وتصفو وجوههم ، وتجري عليهم نضرة النعيم ، والغل : الحقد والعداوة ، يقال منه : غل يغل، ويقال من الغلول وهو السرقة ، ويقال من الخيانة، المعنى أنهم يتطهروا من كل غل و حقد و ضغينة ، إخوانا على سرر متقابلين أي لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض تواصلا وتحاببا، وقيل : الأسرة تدور كيفما شاءوا ، فلا يرى أحد قفا أحد، وقيل : متقابلين قد أقبلت عليهم الأزواج وأقبلوا عليهن بالود، وسرر جمع سرير . مثل جديد وجدد . وقيل : هو من السرور ; فكأنه مكان رفيع ممهد للسرور، والمعنى الأول أظهر، قال ابن عباس : ( على سرر مكللة بالياقوت والزبرجد والدر ) ، السرير ما بين صنعاء إلى الجابية وما بين عدن إلى أيلة،كما دل ذلك على تزاورهم واجتماعهم وحسن أدبهم فيما بينهم في كون كل منهم مقابلا للآخر لا مستدبرا له متكئين على تلك السرر المزينة بالفرش واللؤلؤ وأنواع الجواهر.
ياله من نعيم و يالها من سرر.
وفي هذه الجنات كتب الخلود لأهلها بلا أي هم أو تعب لا يمسهم فيها نصب أي إعياء وتعب و ليس فيها مرض ، وما هم منها بمخرجين دليل على أن نعيم الجنة دائم لا يزول ، وأن أهلها فيها باقون، أكلها دائم إن هذا لرزقنا ما له من نفاد.
ثم يقول تعالى (نَبِّئْ عِبَادِي) أي: أخبرهم خبرا جازما مؤيدا بالأدلة، { أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } فإنهم إذا عرفوا كمال رحمته، ومغفرته سَعَوا في الأسباب الموصلة لهم إلى رحمته وأقلعوا عن الذنوب وتابوا منها لينالوا مغفرته.
ومع هذا فلا ينبغي أن يتمادى بهم الرجاء إلى حال الأمن والإدلال، فنبئهم { وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ } أي: لا عذاب في الحقيقة إلا عذاب الله الذي لا يقادر قدره ولا يبلغ كنهه نعوذ به من عذابه، فإنهم إذا عرفوا أنه { لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد } حذروا وأبتعدوا عن كل سبب يوجب لهم العقاب، فالعبد ينبغي أن يكون قلبه دائما بين الخوف والرجاء، والرغبة والرهبة، فإذا نظر إلى رحمة ربه ومغفرته وجوده وإحسانه، أحدث له ذلك الرجاء والرغبة، وإذا نظر إلى ذنوبه وتقصيره في حقوق ربه، أحدث له الخوف والرهبة والإقلاع عنها.
وهكذا فإن المؤمن الحصيف مابين هذا و ذاك فلا قنوط يجر إلى يأس ولا رجاء مع تهاون و استسهال قد يؤدي إلى الإهمال و التراخي و كثير من المسلمين يقعون فريسة الإفراط أو التفريط في هذا الشأن.
ولنتمعن إلى تطهير الإنسان من الغل قبل دخول الجنة و كأن جمال الجنة و مهابة قدسيتها لا يتناسب وقبح الحقد و دناءة الغل ، فالمؤمن الحقيقي يطهر قلبه من هذه البذرة القاتمة، ولا يتفق حسن إيمان العبد مع قلب فيه حسد أو كره أو حقد فهذه الصفات البغيضة لايقبلها صفاء الإيمان و نقاؤه، وينعكس حقد القلب و سواده على الشكل مهما كان جميلا فقد نرى امرأة بارعة الجمال الا أن حقد قلبها يكسو وجهها بلؤم منفر وبغض مخيف، والمؤمن الحق لابد و أن يدرك أن الدنيا فانية و لاشيء يستحق إهدار الجهد و الوقت و المشاعر على الحقد ، فحياة المؤمن أثمن من أن تهدر، و بدلا من اتباع الشيطان و هو يوسوس بحقد و انتقام، فلنشغل أوقاتنا بالخيرات و جلب الحسنات.
نسأل الله قلوبا عامرة بحبه و الإيمان به كما نرجوه الجنات و نعيمها بفضله.
د. فاطمة عاشور

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى