مقالات مجد الوطن

٢١ روايتي: شرارة وبناتها حرائق!!

وفي الظهيرة توقف جميع العمال لتناول وجبة الغداء وأخذ قسطًا من الراحة في سقيفة الاجتماعات التي كانت الأكثر ازدحامًا بأناس من متأذي البيوت. وعندما دقت الساعة الواحدة والنصف لوح (المتوهم) بيده وعرض على (المنصدم) أن يصاحبه لزيارة (أيوب) في المشفى، أعتذر (المنصدم) له وتحجج بضغط العمل، وبذل قصار جهده في إقناعه بأن ظروف إصلاح بيته لا تسمح له بمرافقته، لكن (المتوهم) لم يقبل له عذرا، وقال له بجدية: “هذا الواجب غير قابل بتاتًا للمماطلة أو الرفض”.
اضطر (المنصدم) أن يتبع (المتوهم) الذي لم يخطو شبرًا بدونه ووضعه أمام الأمر الواقع. مشيا سويًا حول ما سقط من مدينتهما وما تبقى من اطلالها حتى وصلا إلى الشارع العام ووقفا على رصيفه المتصدع يطلان على سكته الفارغة، وهنا تعلقت الهواجس في رأس (المنصدم) بوسيلة النقل التي ينبغي أن تقطع بهما المسافة ما بين الشارع العام والمشفى. انتظرا وانتظرا إلى أن اعترف (المنصدم) ل(المتوهم): “أنا اعترف لك أنني لن أقوى على احتمال هذا الطقس، هذا الترقب يثير اعصابي، هل يجب عليّ أن اتحمل هذا الكدر من أجل أيوبك؟”
التزم (المتوهم) الصمت، و(المنصدم) مسترسل: “بنت جهنم ستذيبنا حتى تبخرنا وإذا رحمتنا ستحمصنا حتى ننشف وتحولنا إلى مواد صالحة للدق والطحن، بن، يا أخي حرام عليك لنا نصف ساعة ونحن تحتها منتصبان بإحكام على هذا الرصيف الذي ارتفاعه أطول من ساقيّ، أنت وأنا في هذا المقر كعمودين.. أنت كعمود كهرباء الضغط العالي وأنا كعمود إشارة المرور تضغطني حتى أضيء.. كلانا يا عمود مع طاقة الشمس هذه سيحترق ويترمد”.
مسح (المنصدم) العرق المتصبب على جبينه بفوطة صغيرة كان يضعها خلف رقبته، ومع شدة ارتفاع درجة الحرارة جرى الضوء كالماء ووصل شعاعه إلى عيني (المتوهم) الذي أظهر له أن الاسفلت مغطى ببركة ماء، فكلما اقترب منها ابتعدت عنه على الرغم من أن المسافة ثابتة بينهما.
نظر إليه (المنصدم) في تأمل ولاحظ ما هو عليه، وقال له: “انه سراب.. سرااااااااب.. أتعلم ما هو الشيء الذي خطف بصري الآن؟” التفت نحوه (المتوهم) شبه مبتسمًا، فإذ به يخبره: “الذي خطفه حالًا هو شحوبك الذي أضفى عليك هيئة الإرهاق والتعب، أظن أن رجلًا مثلك عريض المنكبين وقوي البنية وثغره لديه ابتسامة واثقة لا تفارقه على أي حال مؤكد انه يخجل من الشكوى. إذا أردت رأيي دعنا نعود فلن نجد في هذا الجو مركبة تحملنا إلى المشفى”. لم يكترث (المتوهم) بما قاله لاسيما وانه سمع صوتًا جعله يلتف بسرعة نحوه، “انها سيارة قادمة من آخر الشارع إلينا” هكذا قال (المتوهم).
كانت سيارة ذو موديل قديم شبه معطلة وعدم انتظام الطريق ورداءته جعلت سائقها يجرجر عجلاتها ببطء؛ لهذا كان صوتها أسرع وصولًا إلى (المتوهم) منها.
ظلا يتحركان طوال فترة ما بعد الصوت على حاف الرصيف المتشقق وسرعان ما بدأ (المنصدم) يتذمر كما اعتاد: “هذا حظي منذ نعوم معرفتي بك مجاملات في مجاملات على حساب أنفسنا ولمن لا يستحقها، ويجب علينا أن نتحلى بالصبر على تبعياتها الناجمة منها”، تمتم (المتوهم): “أزف الوقت”، بدأت الدهشة على ملامح (المنصدم)، بينما استمر (المتوهم) في متابعة خط سير المركبة شارحًا له تحركاتها إلى أن توقفت بجانب حافة الرصيف ذاته، دنا (المتوهم) منها، واطل من نافذة الراكب الأمامية، كان قائدها ذو بشرة قمحية، شعره أجعد “كدش طبيعي”، أنفه أفطس، يرتدي نظارة طبية كبيرة العدستين، وقميصًا وبنطالًا وهو شاب في العشرين من عمره أو تخطاها قليلًا، قال له:
– إلى أين وجهتكما يا عم (المتوهم)؟
اخرج (المتوهم) رأسه من الشباك وهتف ل(المنصدم) الذي كان يمسح وجهه: “هيا أسرع إنه زين”، ثم فتح باب الراكب الأمامي وفي أثناء ذلك أجابه:
– إلى المشفى لزيارة عمك أيوب.
صعد (المنصدم) السيارة في اللحظة التي رد فيها زين، وسكب جوابه في اذنيه قطرانًا أو كمادة حارقة: “مسكين العم (أيوب) دومًا حظه السيء يحطمه فلو لم يكن صبورًا لوجدناه مجنونا”.
قال المنصدم:
– ولولا حدوث ذلك لِمَ عرفنا بأن لديك قاعدة معرفية جيدة عنه، وأنت مازلت صغيرًا لا تعرف شيئًا عن الحياة وما فيها.
– في الواقع أنا لا أعرفه عن قرب، لكنني انبهر به كلما لحظته.
-تنبهر! انبهر لا تثريب عليك، فلقد انبهر به من هو أكبر منك.
ثم أشار على (المتوهم) وقال: “وهذا أمامك مثال يقتدى به”.
ابتسم زين ابتسامة خفيفة، أحال بصره حواليه، ثم قال له:
– يا عم (المنصدم) كل الكائنات الحية تحتاج إلى الرحمة فهي تشعر بكل ما يفرحها ويتعسها.. يسعدها ويؤلمها ونحن يسعدها ويؤلمها؛ لهذا نحن نَرحم لنرحم.
التقط (المتوهم) كلمات زين حتى يرد على فضاضة (المنصدم):
– ليس هناك أجمل من هذا، وأنا سأمضي على خطاك يا زين، وسأنبئه عقلي أن الرحمة هي الحكمة وموطنها أعماق قلبي، ومن لا يرحم لا يُرحم.
لاحت ابتسامة باهتة على وجه (المنصدم) وغنى بصوته القبيح غير عابئ بهما: “أنا محاميك أنا محاميك ادافع عنك واشريك.. أنا محاميك أنا محاميك…..”، رغمًا عنهما تقبلا منه نشازه ولم يجرؤ أحدًا منهما على إسكاته خشية أن يقعا في حبائل التناقض، فيهاجمهما بان لا رحمة لديهما؛ لهذا لم يطربا لغنائه. اضطرا أن يتحملا ضجيجه طيلة الطريق حتى يأتي الصمت ويفرض سطوته عليه.

الروح/ صفية باسودان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى