محمد الرياني
نزلتُ من العمارة كعادتي كل صباح، يعجبني أن أقرأ ملامح الناس في الحي الشعبي في المدينة المزدحمة، في ذلك اليوم كنتُ أرتدي بنطلونًا أزرق اللون وكوتًا أبيض بداخله قميص أزرق، مشطتُ شعري الأسود لأزيل تجاعيد الليل ، أخرجتُ من جيبي مرآة صغيرة لأتأمل وجهي وأناقتي، يعجبني في الأحياء الشعبية أن أسأل بعض المارة وخصوصًا من أرى في وجوههم البراءة أو مرارة الحياة، جلستُ على قطعة اسمنتية من مخلفات البناء تحت عمارة قديمة في الظل البارد، الناس هنا يمرّون وهم يسلّمون على الرغم من أحاديثهم الجانبية التي تتعلق بالعمل في الغالب، اقتربت مني فتاة في العشرين أو يزيد عمرها بقليل، ظلت تتأمل هذا الأنيق الذي يتفيأ تحت عمارة تكاد تكون مهجورة، ناولتني وصفة طبية، عرفتُها من شكلها أنها للعلاج، أنا أكاد أتقن الانجليزية وخصوصًا المصطلحات الطبية، قرأتُ السطور بصوتٍ مسموع لها لتعرف أنني أفهم قصدها، قالت إنها بحاجةٍ إلى العلاج وليس معها مايكفي لشرائه، المبلغ زهيدٌ بالنسبة لي، ناولتها مايكفي وزيادة، سألتني… من أين؟ لم أجبها كما تحب، اكتفيتُ بذكر اسمي، قالت: اسمي (بسمة) ثم ابتسمت، ملابسُها الرثة بعض الشيء وشعرها الطويل الذي لايعرف التسريح وحذاؤها القديم غابت في حضور بسمتها، أرادت أن تنصرف لولا أن بائعَ عسلٍ جائل وقف عندي وهو يقسم أن عسله من المنحل وأنه غير مغشوش، من حسن حظي أنني تدربتُ على معرفة العسل في مزرعتنا التي تمتلئ بخلايا النحل، وأعرف أنواعه، طلبتُ من بسمة أن تعيد لي الوصفة لأقرأها من جديد، كنتُ على ثقة بأن الطبيب يجب أن يضيف عسلًا مكملًا للعلاج، لم أجده في الأسطر الثلاثة على صدر الصفحة، قلبتُ الورقة لأجد نصيحة الطبيب بأخذِ العسل كل صباح، أخذتُ عبوة من العسل وناولته لها، التفتت إليّ وابتسمت ابتسامة عريضة أشبه بشروق الشمس في هذا المكان، أردتُ أن أعطي البائع قيمة العسل فامتنع، قال لي بلهجة عنيفة :أنت عربي وأنا عربي، تركني وهو يصيح ببضاعته: عسل… عسل، سرتُ بجوار العمارة القديمة باتجاه غرفتي، اخترق أذني صوتُ بسمة وهي تغلق الباب بقوة من الفرحة، فتحت النافذة المطلة على المارة وهي تشير لهم نحوي… سمعتُها تقول : هذا النحيل الذي يلبس الأبيض والأزرق.