محمد الرياني
تركَها لترضعَ وليدَها الذي خرجَ إلى الدنيا واتجهَ ليقومَ بأعمال البيت بدلًا عنها ، الصغيرُ يضعُ فمَه الغَضَّ في رأسِ الثديِ لينعمَ باللبنِ لأولِ مرَّةٍ والأمُّ تكتفي بنظراتِ الإعجابِ يعتصرُها الألمُ لهذا الزوجِ الذي يحملُ عصا المكنسةِ ينظفُ المكانَ كي لايأتي الزوَّارُ على رائحةِ الأوساخ ، يعودُ بين وقتٍ وآخرَ ليستفسرَ عن بعض الأشياء سرعانَ مايعودُ منهمكًا ليكملَ عملَه ، ينتهي من نظافةِ البيتِ فيدخل المطبخَ الصغيرَ ، يُخرجُ الدقيقَ من الكيس ليعجنَه ويضعَه على الموقد وهو يحركه ، يضيفُ إليه السَّمنَ والسُّكرَ بعد أن ينسِّقَه داخلَ القدر ، يستوى الدقيقُ وبداخله السمنُ البلدي ، يأتي إليها كي يطعمَها من فراغِ المعدةِ عندَ ولادتِها ، تضعُ الرضيعَ على فراشِ المهدِ وتُغطِّيه من الحشراتِ الطائرة ، تجلسُ متثاقلةً وهو إلى جوارها يطعمُها بيدِه ويطعمُ نفسَه ، وكلما أرادتْ أن تتقيأَ من التعبِ أمسكَ بظهرها وخففَ عنها الألم ، تشبعُ فيعيدها إلى وضعِ الاسترخاء ، يعودُ إلى النارِ ليشعلَها ويصنعَ لها القهوةَ العربية التي تحبها، تشمُّ رائحتَها من الداخلِ فتحاول النهوضَ من مكانِها لتساعده ، يراها من الداخل فيمنعها بصوته، يقبلُ عليها بفنجانينِ من الفَخَّار ذي اللون الأخضر والدلَّة ، يصبُّ لها ويعيدها إلى وضعِ الجلوسِ من جديد ، تحتسي القهوةَ وهيَ تدعو له بطولِ العمر ، يصبُّ لنفسه ويحتسي وهو يدعو لها بحياةٍ طويلة ، كَبرت وكَبرَ معها ، سقطَ على الأرض بعد مُضيِّ العمر فلازمَ السرير ، لازمته الفراشَ لتطعمَه بيدها ولا تكادُ يدُه ترتفعُ عن جانبه ، مثُلَ أمامَها وهو واقفٌ في الفناء رابطًا قطعةَ قماشٍ على منتصفه وهو يساعدها عند الولادة ، آخرُ لحظاتِ الإطعامِ لم تكتمل ، أغمضَ عينيه وهي تحاول فَتْحَ فمه ، عرفت أنه لن يذوقَ شيئًا من يدِها ، تركها تبكي على رائحتِه التي نبتت في البيتِ عقودا ، غربت عليها الشمسُ بلا أنيس ، في الصباح بحثتْ عن ملابسِه وأشيائه ،ساعتِه السوداء ، مذياعِه العتيق ، أخرجت بعضَ ملابسِ الذكرياتِ التي جمعتهما ، انهارت على الخِرَقِ القديمة ، تدلَّى رأسُها بين الموروث ، حضروا لتعزيتِها ، كانت قد سبقتْهم إليه .