محمد الرياني
….وبعدَ عَامٍ على افتراقِنا ،اعتدتُ أن ألبسَ نظَّارةً شمسيةً تعلو الكِمامةَ السوداء ، بَشَرَتي الداكنةُ أحالت وجهي إلى ليلٍ أسود ، شيءٌ واحدٌ يميّزُني إذا مررتُ بمكانٍ أو تواجدتُ فيه هو رائحةُ عطري المميزةُ النفَّاذةُ التي تبقى لفترةٍ طويلة ، وقفتُ لأبتاعَ في سوقِ السمكِ فاختلطتْ رائحةُ عطري برائحةِ السمك ، المرتادون لسوقِ الكائناتِ البحريةِ يدخلون باحترازٍ وانتظامٍ وعلى دفعات ،حظِّي في السوقِ قادني إلى بائعٍ متمرسٍ في البيع ،شديدٍ في إنقاصِ السعر ، هذا يتطلَّبُ منِّي وقتًا كي أجبرَه على فعلِ ما أريد ،المنتظرون للدخولِ يصيحون من البوابةِ الخشبيةِ الصغيرةِ عندَ حارسِ الأمنِ يُؤَشِرُون بأيديهم وينظرون في الساعاتِ أن أسرعْ لقد تأخرت ، مرَّ بجانبي وأنا أُشعرُ بحركةَ تصنتٍ من خلفي ، وجهي لايكادُ يُعرَفُ حتى لأقربَ مقرَّبٍ لي ، ازدادَ وزني مايقاربُ عشرةَ كيلوغراماتٍ في عام ، سمعتُه يقول لصاحبِه وهو يستروحُ رائحةَ العطر : يا أخي هُوَ ..هُوَ ، ثم يتراجعُ عن قوله : هُوَ أم غيرُه ..هُوَ أم غيرُه ،كرَّرَها فيما يبدو ثلاثًا وأنا أكاد أنفجرُ ضاحكًا ولايمنعُ فَضْحِي سوى الكِمامَة التي أخفت فميَ المفتوحَ ونظَّارتي الشمسية السوداء التي غطَّت على عينيَّ الضاحكتين من الموقف ، عادَ ليقتربَ أكثر ، سعلتُ باحتقانٍ مرةً ومرتين ،فزَّ هاربًا من الخوفِ وهو يقول لصاحبِه : هيَّا بنا قبلَ أن (نَتَكَرْونَ) مِنْ هذا المشتري الذي يبدو منتفخًا بعضَ الشيء ، هذا ليس صاحبي ، تركَ السوقَ وقد تعمدتُ البقاءَ في مكاني كي يبتعدَ عن الناسِ والزحام ،ظللتُ أرقبُه حتى اتجهَ إلى حيث تقفُ سيارتُه ، انطلقتُ بسرعةٍ وفي طريقي وضعتُ كيسَ السمكِ في الصندوقِ الخلفيِّ لسيارتي الواقفةِ قريبًا منه ، أدارَ محركَ السيارةِ وصاحبُه إلى جواره ، أشرتُ بيدي إليه أن توقف ! منعتُه من أن يفتحَ نافذةَ الباب عن يساره ، أمطتُ اللثامَ عن وجهي ثم سحبتٌ النظارةَ عن عينيَّ ووضعتُها في جيبِ ثوبي العلوي ،قلتُ له والزجاجُ مفتوحٌ بقدْرٍ يسيرٍ ليسمعَ صوتي : هُوَ أم غيرُه ، انفجرَ ضاحكًا ، قال مازحًا على طريقتِه سوَّدَ اللهُ وجهَكَ وهو أسود ،هكذا تفعلُ بي ، قلتُ له سامحَكَ الله ، أمَا عرفتَ عِطري ،قال نعم ، ولاعرفتَ صوتي الذي سَعَلَ وقد كنتُ أفعلُ ذلك عندكَ مع الزكام، قال :ازدادَ وزنُكَ فلم أعرفك ، أعدتُ الكِمامَة على وجهي ثم ارتديتُ نظَّارتي من جديد ، غادرَ من عندي ، تركتُه يقطعُ مسافةً يراني فيها ،أشَّرتُ بيدي فرآني من المرآةِ العاكسةِ أمامَه في المنتصف ،توَقَّفَ وأعادَ السيارةَ للخلفِ في المواقف التي تبدو شبه خاليةٍ عندما تراجع ، قلتُ له :افتح النافذة ، قالَ خيرًا ، هل نسيتَ شيئًا لتقوله ،قلتُ نعم ، (هُوَ أم غيرُه )فتحَ البابَ ونزلَ ليحتضنني من حبِّه لي ، قلتُ له : أجِّلْ حُبَّكَ حتى أُزيل هذه السوداء، كنتُ أمسكُ بالكِمامَة التي تعكَّرَت رائحتُها لأستبدلَها.