مكة المكرمة – سامية الصالح
أمّ المسلمين اليوم لصلاة الجمعة في المسجد الحرام فضيلة إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور فيصل غزاوي فتحدث فضيلته في خطبته الأولى عن قيمة المرء فقال : فكيف يكون حالُ الإنسان إذا ضل طريقه ونسي الغايةَ التي من أجلها خلق. إنه كمن حذر الله من حاله بقوله {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا }غَفَل عن الله فعاقبه بأن أغفله عن ذكره، وشُغل بالدنيا عن الدين وعبادة ربه، واتبع هواه فما اشتهت نفسُه شيئا إلا تبعته، ولو كـان فيه هلاكـها وخسرانها، فهـو كمـن ذم الله بقولـه {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } فكانت أعماله وأفعاله سفها وتفريطا وضياعا
وقد قيل: من ضيع أمره ضيع كل أمر، ومن جهل قدره جهل كل قدر، ولذلك فلينظر كل امرئ ما قيمته وما قدره؟ ما عمله وما الذي يحسنه؟ ما همته وما هي مطالبه؟
إن الله تعالى ميز بين من يطلبُ الدنيا العاجلة، يعمل لها ويسعى ولا يرجو ما عند الله، وبين من يريد الآخرة ويطلبها، ويعمل لها فقال سبحانه: { مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُومًا مَّدْحُوراً وَمَنْ أَرَادَ الآخرةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَـئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً } وقال الله تعالى: {ولكن أكثر الناس لا يعلمون، يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } فوصفهم بأنهم لا يعلمون مع أنهم قد يعلمون ظواهر من الدنيا، وربما يكون أحدهم ذا دراية وخبرة في كثير من المعارف والفنون الدنيوية ، ولذلك قال الحسن البصري رحمه الله: “والله ليبلغ من علم أحدكم بدنياه، أنه يقلب الدرهم على ظفره فيخبرك بوزنه، وما يُحسن أن يصلي” وقال بعض السلف: “يعرفون أمر معيشتهم ودنياهم، متى يزرعون، ومتى يحصدون، وكيف يغرسون، وكيف يبيتون” وقال تعالى في ذم أقوام { ذلك مبلغهم من العلم} أي : إن طلب الدنيا والسعي لها هو غاية ما وصلوا إليه وإن نهايةَ علمهم أن آثروا الدنيا على الآخرة
ثم تحدث فضيلته عن ما يميز الناس ومعيار التفاضل بينهم فقال : ما الأساس الذي يميز بين الناس وما معيار التفاضل بينهم؟ هل هو الهيئة والصورة والمظهر؟ لا، فما خص الله به قوم هود ما جاء في قوله تعالى على لسان نبيهم {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} في القوة وعِظَم الأجسام وشدة البطش، لكن لم يكن لهم قدر ولا شرف ولا كرامة إذ جحدوا نعمة ربهم وكذبوا رسله فاستأصلهم الله بعـذاب كـما قـال سبحانه: {وقَطَعْنا دابرَ الذين كذبوا بآياتنا }
ومما حذر الله منه الاغترار بظاهر المنافقين وما هم عليه من هيئات ومناظرَ وحسنِ منطق وفصاحة قال تعـالى { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إنَّه لَيَأْتي الرَّجُلُ العَظِيـمُ السَّمِينُ يَومَ القِيـامَةِ، لا يَزِنُ عِنْدَ اللهِ جَناحَ بَعُوضَـةٍ، اقْرَؤُوا (فَلا نُقِيمُ لهمْ يَومَ القِيامَةِ وزْنًا )، فمثل هذا ليس له قدر ولا مقدار لخلو قلبه من الإيمان، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ) وانظروا في المقابل على سبيل المثال حالَ الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، لما ضحك بعض الصحابة من دقة ساقيه، قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من أُحد) وقد جاء في وصفه رضي الله عنه وأرضاه أنه كان رجلاً نحيفًا قصيرًا، شديدَ الأُدْمة، أحمشَ الساقين، لطيفَ الجسم، ضعيفَ اللحم، وكان إذا مشى يوازي بقامته الجلوس، وما ضرَّه ذلك كلُّه ولم يَحُطَّ من قدره فهو عظيم القدر عند الله رفيع الشأن يوم القيامة
وفي صحيح البخاري (مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ: مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا ؟ ، فَقَالَ : رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ، هَذَا وَاللَّهِ حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا ؟ )، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ، هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَـبَ أَنْ لاَ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَـعَ أَنْ لاَ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لاَ يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا) فقد يكون الرجل ذا منزلة عالية في الدنيا وليس له قدر عند الله، وقد يكون في الدنيا ممن لا يُؤبُه له، وليس له قيمة عند الناس، وهو عند الله خير من كثير ممن سواه. ومما يشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم ( رُبَّ أشعثَ أغبر ذي طمرين، مدفوعٍ بالأبوابِ لو أقسمَ على اللَّهِ لأبرَّه)
ثم اختتم فضيلته خطبته الأولى بالحديث عن قيمة المرء عند الله فقال: نلخص مما تقدم إلى أن المرء لا يوزن بحسبه ونسبه، ولا بمتاعه وماله، ولا بزينته ومظهره وجماله، ولا بمنصبه وجاهه ورتبته وألقابه، لكن المعيار في التفاضل بين الناس الإيمان والتقوى كما قال تعالى { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } فالتقوى أساس الرفعة والشرف
ألا إنما التقوى هي العز والكرم وحـبـك للـدنـيـا هـو الـذل والسـقـم وليس علـى عبــد تقي نقيـصــة إذا صحح التقوى وإن حاك أوحجم والميزان الصحيح والمِحَك الحقيقي لبيان قدر العبد ومكانته عند الله تعالى إيمانه، وباعتبار ما في قلبه من محبة لله، وإخلاص وإخبات، وخوف ورجاء وتقوى، وباعتبار العمل الذي يبرهن به صاحبه من صلاح معتقده وحسن سيرته واستقامته واعتزازه بدينه وتمسكه به وثباته عليه ومحافظته على مبادئه وقيمه وأخلاقه
أي قيمة لحياة امرئ تمر به الأوقات سراعاً وتكرُّ عليه الأيام تباعا وهو غافل لاه، قد قعد عن طلب ما ينفعه، وزهد في تعلم ما يحتاجه والسؤال عما فيه فلاحه وصلاحه، وجرى وراء دنياه، فلا ذكر للعلم ولا للعبادة ولا للعمل الصالح ولا اشتغالَ بذكر الله وما يقربه من ربه. إنما أخبار عن حياته وأعماله الدنيوية وتفاخر بحسبه ونسبه وإضاعةٌ للأوقات فيما لا ينفع. كما أنه لا يستوي من يتعلم العلم لينتفع به وينفع الناس ومن يتعلمه ليتباهى به ولا يستوي من يكتسب المال الحلال لينتفع به في مصالحه ويستغني به عن الخلق ويقضي به حاجات الناس ومن يكتسب المال ليفاخر به وينفقَه في غير حِله ولا يستوي من يطلب الأولاد ليُرزق الذرية الصالحة ومن يطلبهم ليكاثر بهم ويتعالى. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ۖ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَالَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ }
ثم تحدث فضيلته في خطبته الثانية عن فعل الخير والعزم عليه فقال: إن هممت بفعل الخير فبادر، وإن عزمت فثابر، وإن جَهِدت فاصبر وصابر واعلم أنه لا يدرك الفضائل والمفاخر، من رضي بالدون والصف الآخر. وتذكر أنه وإن كان دخول الجنة برحمة الله ومغفرته فاختلافُ مراتب أهل الجنة وتفاضلُهم في منازلها ودرجاتها يكون بحسب إيمانهم وتقواهم وأعمالهم الصالحة؛ فعلى المرء أن يرتفع ويجد ليصل إلى أعلى منازلها ويحذر من شراك من يحول بينه وبين نيل الرقي في درجاتها
واختتم فضيلته خطبته الثانية عن خصائص أعظم أمة عند الله فقال : إن الله تعالى خص الأمة المسلمة بما ليس لغيرها فهي أعظم الأمم في الدنيا والآخرة رفع قدرها وشرفها واصطفاها وجعلها خير أمة أخرجت للناس، وهي اليوم بحاجة إلى إفاقة ويقظة وعودة صادقة بعد أن بعدت في جملتها عن كتاب ربها وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وهدي سلف الأمة وضعف تمسكها بدينها؛ فصارت بخلاف ما كانت عليه من الأمجاد والمعالي، وفقدت كرامتها وعزتها وقدرها وقوتها وهيبتها، وأوهنها اليأس والقنوط والفشل والهزيمة، وضعفت همتها وخارت قواها؛ فتخلفت عن مسيرتها وأهدافها ومبادئها وريادتها، وصارت عالة على الأمم غيرها. ألا فما أحراها أن تعود لماضيها التليد وتاريخها الرشيد .