مقالات مجد الوطن

سائق

 

محمد الرياني

طويلُ القامةِ ووسيمٌ وأبيضُ البشرة، ممتلئٌ جسمه كالعدائين، يمشي في طرقات العمل بعطرٍ فواحٍ ولباس أبيض كامل، يبتسم في أناقةٍ وحزم، شخصيتُه الجذابةُ جعلته مديرًا بعد تجربةِ عملٍ قصيرة، يوقّعُ بشكلٍ لافتٍ للانتباه، لايردُّ محتاجًا، اشتهرَ بعبارة عدم الممانعةِ دون المساسِ بحرمةِ النظام، ثلاثةُ عقودٍ وهو يعمل دون ضجيجٍ أو تعب، يحتاجُ لمسكنِ الصداعِ فيجلبه معه احتياطًا متى شعرَ بالإرهاق، لم يمنعه بعدُ المسافةِ من أن يكونَ المميزَ والقدوةَ في عمله، شيئًا فشيئًا بدأ البياضُ يغزو شعره، تأتيه عباراتٌ للمداعبةِ عن الشيب، يتقبلها بنفسٍ راضية، شيئًا فشيئًا لم يعد يجد في الأسواقِ عطرَه القديمَ ولاشماغَه القطن الذي اعتاد عليه، الذين يمرُّون بمكانِ مرورِه استغربوا عبقَ المكانِ الذي تتضوعُ منه رائحةُ المديرِ الأنيق، غاب يومًا فجاء مَن يطلبُ التوقيع، البابُ موصدٌ على غيرِ العادة، جاءَ متأخرًا مُشمِّرًا وهو يعتذرُ لهم عند الباب، رأوا آثارَ التحليلِ من خلالِ اللاصقِ على ذراعه، جلسَ بهدوءٍ وهو يبتسم، قال لهم: ما أقصرَ أيام العمل! نظرَ من الشباكِ الزجاجيِّ المطلِّ على سيارتِه القديمة، أخبرهم بأنه لم يغيِّر سيارتَه منذ أن عملَ ولاتزالُ تعملُ بكفاءةٍ عالية، مازحَه أحدُهم بأنها ستغَطِّي بعضَ المصاريفِ إذا غادرَ العمل، بلعَ الكلمةَ بغصَّةٍ وكتبَ على الورقةِ التي أمامَه بعدمِ الممانعة، أغلقَ على نفسِه الباب، تأمَّلَ الأوراقَ المرتبةَ أمامه، فتحَ الأدراجَ القديمةَ المؤرخة، دمعتْ عيناه لموقعين رحلوا، وأسماء مكتوبة لا يعرفُ مصيرَهم، أخرجَ ورقةً وكتبَ طلبًا لإغلاقِ ملفه ، تناولَ ملفًّا مُصورًا يجمعُ ذكرياتِه، مرةً ببشتِه الذهبي، ومراتٍ بلباسِه الاعتيادي، نظرَ في الصورِ التي شاخَ أصحابُها وذهبتْ نضارتهم، غادرَ العملَ ومعه ملفُّ شبابِه وكهولتِه ووضعَه في السيارة، قرأ في الطريقِ إعلانًا عن الحاجةِ إلى سائق للعمل ، فكر في كلمةِ المُراجعِ الذي مازحه، تحمسَ لأن يكونَ سائقًا وقتَ الراحةِ والحاجة، سار قليلًا فوجدَ أُسرةً على الرصيفِ ومعهم طفلةٌ صغيرة، لوَّحوا له بالتوقُّفِ ففعل، أشار إليهم بالصعودِ و نزلَ إلى الأرضِ مبتعدًا عن مكانِ التوقُّفِ ليُفرغَ مثانتَه، عادَ إليهم معتذرًا عن تأخره، وجدَ الطفلةَ الصغيرةَ تُقلِّبُ ملفَّ الصورِ القديمة، نظرتْ في وجهه تتفحصه وهو يحرِّكُ السيارةَ نحو وُجهتهم ثم وضعتْ إصبعَها على صورةٍ قديمة، قالتْ لأبيها: إنه يشبهُ السائق ، طافتْ على عينيه سحابةٌ فانتابتْه حالةٌ من الدُّوار ، طلبَ من أحدهم أن يُكملَ السَّيرَ بدلًا عنه فاعتذروا منه ثم نزلوا وتركوه ، وقفَ بسيارتِه على جانبِ الطريقِ ينتظرُ مَن يأتي ليوصلَه إلى بيته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى