✍🏻 *ا. طارق يسن الطاهر
هي أرض الحلم لكثير من الذين ضاقت بهم الحياة في بلادهم، وهدف لعدد ممن تقطعت بهم السبل ، ومقصد لمن يبحث عن سعة رزق ، ومرام لمن اشتاق لرؤية بيت الله الحرام ، وابتغى تنشق عبير النبي صلى الله عليه وسلم ، وأريج صحبه الكرام رضي الله عنهم.
أرضٌ درج عليها النبي صلى الله عليه وسلم ، وبعض الأنبياء ، فربما وأنت في بقعة ما ، كان فيها نبيك صلى الله عليه وسلم يوما ما ، وربما وطئت قدماك مكانا ، وطئته قدماه الكريمتان ، مِن هنا ، ومن وجود الحرمين الشريفين، وبقية المشاعر والمزارات ، ولغير ذلك أيضا ، كانت بلادا مختلفة عن غيرها.
بلاد لها القدرة على احتواء جميع التناقضات ، وصهْر كل التباينات ، فقد حوت كل الجنسيات التي في العالم .
شعب قادر على التعاطي مع الآخرين ، بكل خلفياتهم المتشعبة ،ومشاربهم المتنوعة، فقد اكتسب مواطنو هذه البلاد قدرات فائقة على استيعاب الآخرين بكل ثقافاتهم.
أرض تضج بزخم الماضي، وعبق التاريخ ، تكاد – وأنت تمضي في طرقاتها – تسمع صوتا من الأعماق القديمة ، يردد:
قربا مربط النعامة مني
وتكاد تقابل النابغة الجعدي ، وهو يُنشِد رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم:
بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
ويأتيك صوت صمصامة ابن معد يكرب ، وهي تدك الخصوم ، وصليل حسام ابن الوليد ، وهو يطارد الأعداء ،وتكاد تسمع جلبة خيول عثمان بن عفان رضي الله عنه و نوقه ، وهي ترعى وترتع ؛ استعدادا للانضمام لجيش العسرة.
تكاد ترى نغير أبي عمير ، يغرد ويشقشق ويسقسق ، قبل أن يموت ، وتسمع نشيج أبي عمير ؛ حزنا على نغيره، ثم تلمح هدوءه حين طيَّب النبي صلى الله عليه وسلم خاطره: يا أبا عمير ما فعل النغير؟
هي أرض الأنبياء والنبوءات والتاريخ ، وهي بقعة حوت التراث العربي ، وبؤرة انطلق منها الإشعاع ؛ ليضيء العالم.
جئتها – ولم تكن مغترَبي الأول – فكنت قبلها في مصر طالبا ، وفي اليمن معلما، وتناولت تلكما التجربتين في كتابات سابقة ، فللأماكن عبيرها وللمساحات عبقها ، وعندي شجن عجيب تجاه ذلك كله.
جئتها بطفلين حدثين لم يتجاوزا الثالثة ، وخرجا منها ، وهما على أبواب الجامعة، ورزقت فيها باثنين آخرين ، أحدهما في الجامعة ، والأخرى على وشك.
ربع قرن – والربع كثير- أمضيته في تلك البلاد التي تتربع فوق هام السحب، أعطيتها كل ما أملك من علم وخبرة ومعرفة ، وأعطتني مما تملك ، بعض مال ، وكثير مكانة ، وعظيم تقدير.
لا ينبغي أن تقتنع بأحكام الآخرين قبل أن تجرب ، ولن تدرك أن العسل ذو طعم حلو إلا بعد تذوقه ، ولا البصل يُسيل الدموع إلا بعد تقطيعه؛ لذا ليس من الحصافة أن أحكم على المملكة وشعبها إلا بعد أن أعيش فيها وبينهم ، وليس من الكياسة أن آخذ أحكام آخرين جاهزة ، وأتبناها ، وأنا القائل: لا تجعل عقلك فندقا يستضيف أفكار الآخرين.
حينما كتبت عن مصر ، وجسّدتها في شخصية تلك السيدة ذات القيمة والقامة “أبلة كوثر” ، وعن اليمن في ” ولأهل اليمن حق علينا” ، قال لي أحدهم : لِمَ لا تكتب عن السعودية؟ قلت له : لأني كتبت عن مصر واليمن بعد أن غادرتهما ، وسأكتب عن السعودية بعد أن أغادرها ؛ حتى لا يُفهم كلامي نفاقا ، ولا يُظَنّ أن كتاباتي رياء.
لكنني الآن كتبت عن السعودية ، وأنا فيها ؛ لأني أدركت أني أكملت فيها ربع قرن ، وذلك حدث يستحق الكتابة عنه.
كتبت عنها الآن ؛ لأني أدرك أنه لم يبق لي فيها الكثير من الوقت، طوعا أو كرها ، فإني مغادرها قريبا لا محالة ؛ لذا أكتب الآن، وقلبي مطمئن أن ما أقوله لن يُفهَم رياء ، ولن يُظَن نفاقا ، وأهل هذه البلاد الذين تعاملت معهم يعرفون أنني لست هذا ولا ذاك.
قدر كبير من الامتنان وجدته ، وكمٌّ عظيم من العرفان حظيت به، وهالة ضخمة من التقدير أحاطوني بها ، كنت رقما – في عملي – لا تخطئه العين، وكنت مستشارا مؤتمنا على كثير مما يخاف الناس عليه.
خمسة وعشرون عاما ، تلقى التعليم والتربية على يديَّ آلاف الطلاب في شتى المراحل في هذه البلاد.
لي طلاب أفخر الآن بأنهم تبوأوا مراكز مرموقة في المجتمع ، وأسعد جدا بأن حبل الود ما زال موصولا بيني وبينهم ، لا يمر يوم إلا تأتيني من أحدهم رسالة ، أو يطرق هاتفي اتصال منهم ، أو يقرع بابي أحدهم زائرا.
كانوا يحدثون عني أهلهم وذويهم ، ويقرون بفضلي عليهم ، وما لي فضل سوى أنني عاملتهم كما أعامل أبنائي ، فعلَّمت ونصحت ،وخشيت عليهم من عوادي الزمان، وسعيت لأن أحميهم من جهالات بني الإنسان ، فأنجاهم الله من كثير من الأهوال، وخرجوا إلى بر الأمان .
درَّبت عددا مهولا من المعلمين ، وأهَّلتهم لاقتحام مجال التعليم باقتدار ، فنجحوا وأثمروا ،وحفظوا الوداد ، وأظهروا الامتنان .
عشت فيها ربع قرن ، وما شربت ماء الحياة بذلة ، بل كنت أفضِّل كأس الحنظل ؛ لأكون بعزة ، وكنت عزيز النفس ، مهاب الجانب ، رفيع القدر .
لم أتعرض لذلة ولا لإهانة ، ولم يجد أحدهم ثغرة عليَّ يمارس فيها ذوو النفوس المريضة هواياتهم.
أحببت أن أحافظ على سمعة وطني في هذه البلاد ، فهم يحترموننا ويفضلوننا كثيرا ، وذلك لما لمسوه من سمعة حسنة من أمة قد خلت من أبناء بلدي ،رغم بعض التشوهات التي حدثت من بعض أبناء جلدتي مؤخرا ، لكنني كنت حريصا أن أعيد تلك السمعة سيرتها الأولى.
كنت أحمل همَّ وطني وأرى أنني سفير له، أقود الدبلوماسية الشعبية في مظهري ،وفي كلامي، وفي علاقاتي ،وفي عملي ،وفي كل شيء، وأرى أن لوطني حقا عليّ ، لابد من إبرازه كما ينبغي ، ولابد أن أجعل الناس هنا يحترمون وطني في شخصي.
عملت في الطائف أو الطائف المأنوس ، كما يسميها أهلها ، فهي بستان مكة ، مدينة جميلة وديعة لطيفة منظمة مرتبة ،تحمل تراث الماضي وتطوُّر الحاضر ، مزجت ببراعة بين الأصالة والمعاصرة .
هي إحدى القريتين ؛ إذ خلدها القرآن في قول المشركين : ( وقالوا لولا نُزِّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم)
جاءها عبدالله بن عباس وصلى فيها ، ومات فيها ،وخُلِّد ذلك بمسجد ضخم حمل اسمه ، وفيها ذلك البستان الذي دخله النبي صلى الله عليه وسلم ، حين تناول عنقود عنب من عداس .
التي حار في وصفها شاعرها الرائع الأستاذ عبيد الله العرابي ” بعيد النظر” :
مدري وش أكتب عن الطايف وهي دره
الطايف الورد والريحان والكادي
الطايف العشق ما غابت ولا مره
عن خاطري حاضره وتعيش بفوادي
أكاد ألمح مبنى قديما ، ربما يكون المقر الذي كان الحجاج بن يوسف الثقفي يحفِّظ فيه الصبية القرآن الكريم ، قبل أن يغادر الطائف ، ويسطع نجمه.
تمر بغدير البنات ؛ فتستدعي قصته الأسطورية ، وتستمع للشاعر طلق بن عبدالله بن حريب مخاطباً الغدير:
أيا غديراً له في النفس منزلـــــة ما زال في القلب ذكرى منك يبقيها
فهل ترى يا غدير الأنس تذكرني إذ جئتك اليوم قد شابت نواصيـــها
وتستمع لرائعة مقبول بن مبارك العرابي ، وهو من أبناء الطائف، متغزلا في مدينته:
وبسد عكرمة يطيب الملتقى وكذا الشفا وحديقة الحيوان
والردف الغناء بين فتونـــه ولدى الهدا كم عاشق هيمان
وبكل صوب للمصيف ذوائب ومفاتن لم يحصهن لساني
فالماء يسري في الحقول كأنه نبض الحياة وعزفة الفنان
وتمر بوادي وج ، فتتذكر الأمير الراحل عبدالله الفيصل الذي يستدعي التذكر ، ويستحث الذاكرة :
هل تذكرين وداعينا مصافحـــة أودعت فيها كريم الأصل يمناك
أو تذكرين بوادي (وج) وقفتنا وقد أفاضت علينا الطهر عيناك
ثم تطرق خلدك أبيات الشاعر حسين سرحان وقد ميز الطائف عن رصيفاتها :
هذي الطبيعة واصلت وتبرجت إن الحبيب ليستطاب وصاله
الطائف الميمون لا تعدل بـــــه شيئا وإن كان الفريد مثاله
بلاد تمكنت من أن تجعل شعبها يعزها ، لأنها أعزته ، ويحب حكومته ، لأنها تحبه ، ويقدر ولاة أمره ، لأنهم يقدرونه ، بلاد سعت لأن تكون الأولى في كل خير ، والسابقة في كل علم ، والمتصدرة في كل مجال.
بلاد طورت شعبها تقنيا ومعرفيا ومفاهيميا ، وسعت للأخذ بكل جديد ، والاستفادة من كل حديث.
من يقرأ ما كتبته أعلاه ، يظن أن ربع القرن كان صفوا من الأقذاء والأكدار ، لا أبدا ، فقد كانت هناك مرارات ، لكنه حال الدنيا التي لا تصفو لأحد ، ولكني أعلل نفسي بالنصف المليء من الكوب ، فقد امتلأ خيرا كثيرا ، وتقديرا عميما ، واحتراما جزيلا ، وامتنانا كبيرا، لا ينكر ذلك إلا جاحد ، ولست أنا جاحدا ، بل حافظا للجميل .
لكِ مني- أيتها المملكة – السلام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طارق يسن الطاهر
Tyaa67@gmail.com
الطائف
ربيع الآخر 1443