الحياة الروحانية هي الحياة التي تسمو بالإنسان، وترتقي به ، وتحمله بعيدا عن الماديات التي تُطبِق على الإنسان من كل جوانبه.
وحتى أتناول الموضوع بشكل أكثر علمية أحاول – ابتداءً – التفريق بين عدد من المصطلحات المتداخلة ، وهي الرُّوح – الرَّوح – الروحانية – النفس
الرُّ وح “بضم الراء ” : مصطلح يعبّر عن جوهر حيوي يبعث الحياة في الإنسان والحيوان ” الكائن الحي عموما ” ، فالروح خالدة لا تموت ، عكس الجسد الذي يموت ويفنى .
الروح تهب الجسم الحياة ، وتجعل جميع الأجهزة في داخله تعمل ، ولو خرجت الروح لا حياة في الجسم ، ويصبح جيفة نتنة.
الروح هي خَلق من أعظم مخلوقات الله، شرفها الله وكرمها غاية التشريف والتكريم ، فنسبها لذاته العلية في القرآن الكريم. قال الله تعالى : ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ روحي…} الحجر 29
الروح هي كلمة ذات طابعٍ فلسفي، يختلف كثيرٌ من الباحثين والدارسين في تحديد تعريفٍ موحدٍ لها، أو تحديد ماهيّة الروح على صعيد الفلسفات والأديان المختلفة.
ليس هناك تعريف جامع مانع للروح ؛ فماهية الروح لم تحسم بعد ،حتى القرآن أجاب عنها بأنها من أمر الله ، “ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي” الإسراء 85
وردت كلمة الروح في القرآن على مسمى آخر في قوله تعالى : ” تنزل الملائكة والروح فيها …” القدر 4 ، وهنا المقصود جبريل عليه السلام.
كما وردت بمعنى القرآن ، في قوله تعالى : ( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ) الشورى 52
الرَّوح – بفتح الراء – هي الرحمة وهي الراحة والتفريج : ” يا بني اذهبو فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من رَوْح الله” يوسف 87
كذلك قال عبدالله بن المقفع ناصحا الإنسان الذي ازدحمت عليه المشاغل، وتكالبت عليه المهام : ( إذا تراكمت عليك الأعمال فلا تلتمس الروح في مدافعتها …)
الروحانية : تشتق من الروح ، وتعني ما يتعلق بالروح، تنسب –خطأ- للعالم السفلي والدجل والشعوذة ، كذلك الرُّوح يقولون – خطأ -مشروبات روحية .
الروحانية هي الإيمانيات ، وهي توجه أو اهتمام للإنسان نحو كل ما يتعلق بالأمور الروحانية المتعلقة بالروح .
تهتم الروحانية بالقيم الأبدية، و كل ما يمكن أن يفسر أو يشرح الطبيعة الكلية الكبرى للإنسان و الخلق و العالم ، لذلك فهي تقع على طرف نقيض مع الزمني الراهن ،و المادية الطبيعية .
وبضدها تتميز الأشياء، فالروحانية ضد المادية ، فالمادية تتعلق بالجسد الفيزيائي . فالمادة هي كل ما يشغل حيزا من الفراغ وله كتلة.
أما النفس فخلاف الروح ؛ لأن النفس تموت : ” كل نفس ذائقة الموت” الأنبياء 35 ،والنفس ليست كلها خيّرة، فهناك النفس الأمارة بالسوء ، ولكن الروح كلها خير.
وانطلاقا من الروح وسمو الإنسان ، فيمكنه أن يساهم ،و نقدم أفضل ما لديه للمجتمع من خلال تطبيق التعاليم على أرض الواقع؛ لأن التعاليم السماوية الإلهية التي تنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلى الأنبياء جميعا عليهم السلام ،وأمرنا الله بها وباتباعها ، ينبغي أن تتجسد فينا خلقا وسلوكا ، لما سئلت السيدة عائشة عن خلق النبي قالت كان خلقه القرآن، وهذا أبلغ تجسيد للقيم والأخلاق والتعاليم ، وهو أن تظهر في السلوك والتعامل .
مشكلة كثير من المتدينين تجد تدينهم شكليا ،لا يجاوز إلى دواخلهم ،أول ما يبدأ الإنسان برغبته في الالتزام تجده يبدأ بالشكل، فيقصر الرجل الثوب ويطيل اللحية، وتنتقب المرأة ، ولكن في الداخل هما الشخص القديم نفسه.
لا بد أن يبدأ التغيير من الداخل؛ حتى يكون حقيقيا ،ثم ينعكس على الخارج ، مثل البيضة كسرها من قبل الصوص من الداخل فيه حياة له ، لكن كسرها من الخارج فيه موت له.
كثيرون يهتمون بالصلاة، ويغفلون التعامل ، الدين المعاملة ، والخلق الحسن ،فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إنَّ أقربَكم منِّي مجلسًا أحاسنَكُم أخلاقًا…)
لاكتساب الطاقة الروحانية ينبغي علينا الإكثار من النوافل، فقد ورد في الحديث القدسي (إنَّ اللَّهَ تعالى يقولُ ما يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنَّوافلِ حتَّى أحبَّهُ فأكونُ أنا سمعَهُ الَّذي يسمعُ بِهِ وبصرَهُ الَّذي يبصرُ بِهِ ولسانُهُ الَّذي ينطقُ بِهِ وقلبُهُ الَّذي يعقلُ بِهِ فإذا دعاني أجبتُهُ وإذا سألني أعطيتُهُ وإذا استنصرني نصرتُهُ…)
كثير من الناس عندما تضغط عليه الحياة المادية ، وخاصة في عصرنا الحالي ، غلاء وأزمات ومعاناة في كل شيء، فتجده يلجأ للعالم الروحي ، وترك ماديات الحياة ؛ لأنها ضغطت عليه وأرهقته ، ولم يقدر على التعاطي معها.
هذا اللجوء للروحانيات يكون على شكلين : شكل سيئ وشكل حسن ، السيئ يكون بالانجذاب، وترك الحياة والهروب من المسؤوليات وهذا خطأ .
لكن الحسن يكون باللجوء لله وللدين في جوانبه المحفزة للنفس الإنسانية الباعثة للتجلد والصبر.
فقد جاء الدين باحترام العقل ، ولم يلغ الإسلام العقل ، وإنما أعطاه دوره ، وكثيرة هي الآيات التي تحدثت عن العقل ومجدته : “لأولي الالباب”/ “لقوم يتفكرون” /” لقوم يعقلون”/” لعلهم يتفكرون” …
لكن الوعي المطلق لا ينبغي أن يكون على علاته وبدون حدود ، والتفكير المطلق يكون في المجالات التي يفلح فيها ، والتي خلق من أجلها ، فهناك مسلّمات لايمكن التفكير فيها مثل ذات الله ، مثل الموت …
الروح مخلوق من مخلوقات الله ولا نسنطيع إدراك كنهها ،فكيف بإدراك الخالق ؟؟؟
فلكل شيء مجاله ،وكل ميسر لما خلق له ؛ مثلا الخيل يقدر على العدو في الأرض، ولكنه لا يستطيع تسلق الجبال ، والغنم تفعل ذلك .
الإنسان المستنير روحانياً يعلو ويرتقي بنفسه ، وجسده أكثر، ، ثلاثة أشياء يمكن أن تكون انعكاساً للروح السامية التي يملكها الإنسان وهي : القناعات، والأفكار، والأخلاق.
يكون الإنسان مستنيرا روحانيا إذا عمل وبذل واجتهد ،وأخلص في تنفيذ تعاليم الدين ، ونجح في اكتساب مهارات جديدة.
وإذا أدى عباداته بإخلاص، وليس بتخلص ، إذا قرأ القرآن بتمعن وتدبر، وليس بعدد الصفحات ، ختمة قرآن واحدة في رمضان بتدبر أفضل من عشر ختمات بدون تدبر .
إذا كان رحيما بالإنسان والحيوان والحشرات والأشجار ، ولنا في رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بتلك المخلوقات أسوة حسنة ” وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” العالَمين جمع عالَم ، وكل ما سوى الله فهو عالم ، لا تقتصر رحمنه على الإنسان فقط.
كما ينبغي السعي لاكتساب مهارات جديدة ؛لأن المهارات هي استغلال للقدرات، و ممارسة للذوق وترتقي بالنفس الإنسانية، وتهذبها .
لابد أن يبحث عن موهبته وقدراته ،ويتلمس مواطنها ، ولو لم يجد، فليكن متذوقا للفن في شتى ضروبه. يبحث عن الفن الذي يحفز المشاعر ، ويحرك العواطف، لا الفن الذي يثير الشهوات والغرائز.
مظاهر الروح تكمن في القلب والعقل ولكل مقوماته: مقومات العقل العلوم والمعارف والواقع ، في حين تتمثل مقومات القلب في العواطف والمشاعر.
الذي يشبع الجسد هو الطعام والشراب والنوم، وهذه مقدور عليها، وهذه توجد لدى الحيوان، لكن الذي يميز الإنسان عن غيره هو الممارسات الروحية .
هناك ممارسات روحانية كثيرة جدا، لكن أتحدث عن الممارسات الروحانية التي تشبع الروح، وتكون غير معتادة ، ومنها الغفران، التسامح، التأمل، العطاء، الامتنان ، الوفاء ، تقدير الجمال ، تقدير الخدمة المقدمة، الشكر، وحب الخير وفعله، والرضا والتصالح مع الذات.. . وغيرها من الممارسات التي تمنح النفس الطاقة الإيجابية .
لو أخذنا مثالا بالعطاء فهو من الممارسات الروحانية المهمة ، ولو أدرك الإنسان قيمتها لسعى لاكتسابها وممارستها ، فليفرح الإنسان بالعطاء كما يفرح بالأخذ ، هذا الإنسان السامي روحيا الذي يتساوى لديه الأمران: حال أعطى، وحال أخذ ، ويكون كما قال الشاعر :
تراه إذا ما جئته متهللا كأنك تعطيه الذي أنت سائله
فالإكثار من هذه الأفعال يشبع الروح ، ويقيم التوازن بين أفراد المجتمع ، ويكرس الاحترام بينهم.
أما العبادات ، فليس الهدف هو العبادة في حد ذاتها، فالله لا يريد منا جوعا وعطشا عند الصيام ،ولا سهرا وتعبا عند الصلاة، ولكن هذه العبادات لها غايات هي المقصودة ، ومن أبرز الغايات تهذيب الروح ، مثلا : الصلاة غايتها ترك الفحشاء والمنكر / الصوم غايته التقوى …
قال النبي صلى الله عليه وسلم : )لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) لا يمكن الوصول إلى المحبة العامة للإنسانية إلا إذا اهتم الجميع بالروحانيات بمفهومها السليم والصحيح الذي ذكرته سابقا وهو الإيمانيات.
الحواس لها حدود ، فالعين لا ترى كل شيء ولا ترى من كل المسافات ، والعقل لا يعي كل شيء لكن الروح هي التي تفهم وترى وتعي كل شيء ؛ فالأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف.
تطور معنى الروحانية وتوسع عبر الزمن، ويمكن العثور على دلالات مختلفة له ، لأن الإيمان هو عنوانها، وملمحها الفعال.
ينبغي أن يكون الإنسان متوازنا عقليًّا وروحيًّا ، إنسان مؤمن بالله ، ومؤمن بفلسفة الفعل والعمل، وكما قيل إنسان ليس همه حفظ أسماء المساجد في تاريخ الإسلام وكفى، بل إنسان يساهم في ترميم مسجد بلدته إن كان بحاجة إلى ذلك أيضًا، إنسان لا يكتفي بممارسة العبادات فقط، وإنما يسعى لأن يحقق غاياتها ، إنسان يسمو بجسده المادي ويحلق بروحه عاليا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طارق يسن الطاهر
Tyaa67@gmail.com