هكذا أخذ الأكسجين مجراه الطبيعي وأنهى (المنصدم) ما وقع بينهما من شد وسوء ظن مستعر.
نهض (المنصدم)، مسح بكمه ما طرطش على وجهه، ونفض ما علق على ثوبه من تراب وماء، ثم شرع يجمع القطع الخشبية مع المجداف كي يشعل النار فيها لتدفئة الشاب.
(المنصدم) يتأفف.. رائحة البحر الزكية تغيرت عما هي معروفة عليه، حطام القارب متناثر كالرمل على هذا الشاطئ.. جمع ما يكفيه والتف صوب (المتوهم) وسأله بلسان حانق ومتفلت:
– وأنت لم تقصر.. دومًا تفعل ما يمليه عليك رأسك.. تريد أن تسير الكون على كيفك.. ألم أقل لك أن تتحقق إنه حيًا ومازال يتنفس قبل أن تخلع ملابسه المبللة وتحاول إفاقته؟ قلت أو لم أقل.. سمعتني أم انك لم تسمع!
وزع (المتوهم) ابتسامته عليه وكظم غيضه:
– سمعت أمرك يا سيدي (المنصدم) واطعته ووجدته قاطع النفس.
لم يصدقه (المنصدم) انتظر قليلًا حتى أضرم النار، قال له:
– وكيف اعترضك إذاً؟
– هذا ما ظهر لي!
رمى (المنصدم) عود الثقاب المحترق بعدما تغلغل دخانه في أنفه ولعب بها، ثم اعتدل ورد عليه:
– مازلت تتصور الأشياء على غير ما تبدو.. تزيف حقيقتها ودائمًا تضخمها!
توشح (المتوهم) صبرا:
– هذه الحقيقة، لماذا لا ترغب في تصديقي؟ أنا لم أكن أتوهم، لكن روحه القوية هي التي كانت تقاومني وتعاركني.
ابتسم (المنصدم) وهز رأسه هزات خفيفة تنم عن الموافقة:
– أجل إنها روحه؛ لهذا الزم مكانك وأبقى بجوارها ريثما التقط ما ألقيت به وأعود لكما سريعًا.
رفع (المنصدم) طاقيته المصنوعة من الخيط الرقيق الأبيض من الأرض وغطى بها رأسه الاقرع بعد أن نفض عنها ما التقطته من ذرات التراب، حمل نفسه وانطلق إلى الموقع القريب حيث رمى المشتريات.
لم ينتظر الهواء كثيرًا حتى عرض على النار طلب مراقصته، وافقت على الفور دون تردد، مدت له لهبها صافحه بمرونة ودخل فيه بهدوء ثم دار حوله. تناغمت الرقصات وانسجمت الأنفاس مع الأصوات وبخفة فائقة تعمق داخلها ونفخ فيها كالذي ينفخ في نأي حتى اثار غريزة جوعها واشتهت الطعام، فأكلت ما تيسر قبالها إلى أن تصاعد دخانها الكثيف واعتلت سخونتها، وهي مازالت تطالب بالمزيد، ولا مزيد بيد أن الشاب اصطلى بما لم تشبع منه فطفق يكح ويهذي: “كح.. كح..ارجوكم.. ارجوكم اخمدوا النيران البيت يحترق.. زوجتي وطفلتي في الداخل”.
وهنا جاءت مداخلة صوتية فجاءة ولكن دون نفع، فمسامع (المتوهم) في حيرة من أمرها، وكثرة تفكيره في رحلة الشاب الذي سموه فيما بعد (أيوب) جعلتها كالصماء.
عندما هاجت الذكرى أضنى قلب (المتوهم) القلق على صحة (أيوب) وأشعره بالأسف عليه، فهجرته طويلة وبائسة، وكان هذا سبب شرود ذهنه وسفره بعيدًا عن جسمه حتى انه لم يدرك لحظة عودة قوة التيار الكهربائي، ولم يذكر كيف إنه نهض من الأرض وسار حتى وصل إلى المقعد الأزرق وجلس عليه متكورًا على نفسه كالقنفذ، ينافح برد التكييف المرتفع.
قاب صاحب المداخلة الصوتية من (المتوهم) وكان المنرض الذي يرتدي معطفًا أبيضًا، نظر إليه نظرة عطف، مد يده ومسح على رأسه، ثم قال له: “اطمئن إنه على ما يرام، أذهب واسترح ولتأتي في الغد”.
استقرت كلمات الممرض في رأس (المتوهم) وأعادت إليه مخه الشارد مع تمنياتها بالشفاء العاجل لصديقه.
وعلى الفور قرب (المنصدم) ورفع رأس (المتوهم) من ذقنه عاليًا، وسألهما بثقة تامة:
– هل ثمة خطأ ما؟ أليس كل شيء يحدث بإذن ربكما؟
قالا بصوت واحد: بلى.
تحرك (المنصدم) حركتين ناظرًا إلى آخر طرقة الممر، وتابع استبيانه:
– فلماذا نعجل بالخوف، طالما المجهول دائمًا يصدمنا؟
بعد سؤال (المنصدم) الغير متوقع قهقر الممرض.. أشاح بوجهه ودسه في زاوية الحائط، وفي أقل من ثانية شعر (المنصدم) أن الأرض تسير من تحت أقدامه الثابتة، ويد تمسك ياقة قميصه وتجره منها وصوت كالزئير زاجرًا يحذره:
– صه.. لا أحد سيصدمنا غيرك.
استاء (المنصدم) من تصرف صديقه المقرب (المتوهم)، كيف له أن يتجرأ ويسحبه بهذه الطريقة المهينة؟
أما (المتوهم) فقد رأى أن كل الحق معه، هنا يوجد مريض في حالة تتطلب الراحة والهدوء والدعاء. وقد ساقه قول (المنصدم) إلى نعته بالسمج وايضًا إلى الاحتدام واماع البرد الذي جمد أطرافه.
كسر (المتوهم) المخيط الذي خاط فمه وبفتاقه القوة مزق خيوطه وحرر لسانه، تفتق بالكلام دون انقطاع إلى أن وصلا وسط مدينتهم المظلمة المنكوبة، لم يمنعهما التعب عقب نصف ساعة من السير حفاة من الانتشار حول سكانها الذين كانوا في وضع مزري فبعضهم مكدسين كالسجناء، يعيشون في العراء يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، ومنهم من أخبرهما عن آخرين إنهم نقلوا إلى المشفى بعد ذهابهما وهم الآن طريحون فيما تبقى من اجزاءها السليمة يواجهون فيها ما نزل عليهم من الآلام والأسقام.
كانت مشاعر الإحباط واليأس تستحوذهم وأدت بهم إلى خلق صراعات نفسية وأمراض جسدية لا وجود لها.
جلجل (المتوهم) فيهم: “أيها المحبطون.. ما بكم؟ هل الطوفان أغرق مدينتكم وترككم مجاملة على الحياد؟ انهضوا مما انتم فيه وانكفوا عن هذا الاعتقاد السيء، فمعظم مبانيكم مازالت مشيدة، مبانيكم ليست هشة، مساكنكم التي عمرت بفضل الله ثم بمجهود (أيوب) وأنتم ممددون كفرقة مشردة لا مأوى ولا وطنًا لها. أيوب أحدودب ظهره وكثرة تجاعيد وجهه من أجلكم، زاد عمرًا على عمره، صحب معه سنوات مضاعفة اثبتت خبرته وصرفته عن سبل المتعة والترفيه حتى كبت داخله الحب والفرح، وعندما حاول إخراج شيء منها لفظته الحياة كشيء مقزز، فما كان منه إلا أن لملم جثته النتنة كما شعرت هي بها، ودار بطلته البهية التي لم تبصرها عنها وفعل كما فعلت قذفها عجوزًا شمطاء ترفل في لباس فتي وتتأجج في عز الصبا، وحين جذبها الماء سقطت فلعنته حفرتها”.
الروح/ صفية باسودان