د . ضيف الله مهدي
في نهاية الثمانينات الهجرية ، كان يمشي في الليل في ظلام دامس لا يرى كفه من شدة الظلام ، يحمل على ظهره ، نصف عجرة أو أكثر من الحب (الذرة الرفيعة ) يمشي على الزبير وابن عمه يمشي خلفه يحمل مثل حمله .
وفي منتصف الزبير ( جرف كبير وعميق ). وطاح محمد وسط الجرف وحمله عليه وكانت طيحة ظلام مسمومة أدت إلى إصابته بألم في الحال في بطنه وظهره ، الشق الأيمن !!
حسن ينادي : محمد طحت ؟!
نعم طحت وانتبه أنت !
يطلع محمد من الجرف وحامل أيضا معه ما كسبه منذ شروق الشمس حتى مغيبها .
يصل بيته والألم قد أخذ منه كل مأخذ .. تسأله أم أبنائه : مالك ؟!
يخبرها بما حصل له !!
تعمل له سخوف وتقرب له العشاء !
محمد ليس محمد المرح الضحوك النشط والألم ضاغط على أنفاسه . تشرق الشمس ومحمد لا يزال متألما . وتمضي الأيام والشهور والسنوات والألم يتزايد عليه . ولا توجد تلك المستشفيات التي من الممكن أن تتدخل في حالته وتساعده على الشفاء . وتمر الأيام والأيام والألم يزداد .. وفي يوم من الأيام يذهب إلى البلاد شاقي ( يخبط في المجران الحب ).
يسقط من شدة الألم – على ما اشتهر به من قوة – يحمله من كان معه يخبط في المجران حتى يركبونه على حماره ومعه عِمَاله ( أجرته ).
يصل مع صلاة العصر إلى بيته ، ورأته زوجته واقف على الحمار لم يستطع النزول من على الحمار !!
ثم يتحامل على نفسه وينزل ولكنه كان يحبي مثل الأطفال باتجاه عشته وتصيح زوجته ويأتي بعض جيرانه يحملونه .
صالحة بنت حسن حلفت وأقسمت عليه إلا يسافر لجدة يتعالج من مرضه ما معه ولا قرش ، وكل الذي يملكه حب وقصب وكبشين ونعجة .. باع كبش بـ ٢٥ ريال وعزم على السفر لجدة علشان يتعالج وتساير مع عبد الله بر جابر نهاري حتى وصل الطايف ونزل عند بعض الرفاقة من أهل بيش بعدما سألوا فعرفوا بيت حسن جعيدي وبيت يحيى بر حسين سويد وحسين هملان وقاسم جدع الله يرحمهم جميعا كلهم قد ماتوا والجماعة رحبوا بهم وضيفوهم وما بقي من الـ ٢٥ ريال التي معه إلا خمسة ريالات حيث أنفقها في الطريق . وبعد ما نام عندهم في اليوم الثاني راح على جدة وفي الموقف ركب مع صاحب تاكسي وكان يراه وهو مضرور والألم أخذ منه كل مأخذ وصله جدة وأخرج من جيبه يعطيه الخمسة اللي باقية معه فحلف صاحب التاكسي ما يشل قرش . وقال له أراك ياعم معك ألم روح الله يستر عليك ويشفيك . ( ما فيه رجال باقي مثل صاحب هذا التاكسي ) .
وصل جدة ووجد واحد من بيش فسلم عليه ورحب به وقال كل البياشية يجون لهذه القهوة بعد قليل وبعدين جاء ولد خاله أحمد وهو حسين الشاعر الله يرحمه وسمي له أحمد بر حسن محسني ( البكيري ) ومطاعن الضميان الله يرحمهم جميعا ..
قالوا له يا الله نروح بك المستشفى وراحوا به مستشفى باب شريف ونوموه وبعد يومين أو ثلاثة أيام عمل له الدكتور عملية جراحية والحمد لله نجحت .
روح لبيش بعد كم يوم جلسها في جدة بعد خروجه من المستشفى ..
وصل بيش وستة شهور تقريبا أو أكثر ما خلته زوجته يمسك أي شيء ثقيل أو ينزل حمل أو يشيل حتى محزم قصب وقامت بمهام البيت كلها وهي حامل وعلى وشك الولادة .
ويشاء القدر وتطيح زوجته بعد ولادتها مريضة وتستمر مريضه من عام ١٣٩٢هـ حتى عام ١٣٩٩هـ ويعالجها ابنها الذي قد كبر وأصبح عسكريا في شرطة النجدة بجدة وتعود لها العافية والصحة ..
كان يطبخ الطعام أحيانا وينظف البيت أحيانا وهو في النهار شاقي في البلاد بين نصيد وحزمة وتليم وخبيط وندلّة وتربية أطفال وتدريسهم .. ويستمر قطار الحياة حتى ( ينبكع) بوفاة الزوجة في عام ١٤١٦هـ لتغادر صالحة الحياة الدنيا .. ويبقى هو بعدها حوالي عشرين سنة لم يذق طعم الهنا رغم زواجه وعيشه مع نساء فاضلات حتى لحقها ..
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يعشقه الفتى
وحنينه أبدا لأول منزل
تلك قصة حياة شاهدتها وعاصرتها .. أخرجها اللاشعور حينما تداعت المعاني قبل يومين وأنا أتألم في المستشفى !!
رحمهم الله جميعا وجعلهم من أهل الجنة.
0 15 3 دقائق