بقلم
احمد حسين الاعجم
اربع فتيات صديقات منذ الطفولة
شريفة وزهرا شقيقتان
وفاطمة اخر العنقود ووحيدة بين اخوة ذكور اكبر منها
وليلى وحيدة مع اخ اصغر منها اسمه علي
جمع بينهن تقارب السن وتقارب البيوت
كن في الصغر يتشاركن اللعب طوال اليوم
وبعد ان اصبحت اعمارهن بين السابعة عشرة والتاسعة عشرة ازداد ارتباطهن ببعض
واصبحن يساعدن اهاليهن
في جميع اعمال البيت
في جمع الحطب من الوادي
وفي احضار الماء من البئر
وفي العلّفة ( جمع العلف )
وفي الكبّثة ( جمع الكباث )
وفي الضّفّعة ( جمع روث البقر والابل )
وكن يفعلن كل ذلك مع بعض، باشراف شريفة التي يطعنها البنات ولا يخالفن كلامها ،
لكن كان افضل تجمّع لهن هو الطحين حيث ينسقن للطحين معا ليتعاونّ وحدة تقشّر وحدة ترشخ وحدة تُركّ ووحدة تعوّد
وهذه مراحل طحن حبوب الذرة
وكانت البيوت متجاورة لدرجة
ان الواحدة اذا احتاجت الاخرى نادتها من على الزّرب ( سور من الاشجار ) يحيط بالبيوت )
هبيلي لُقّامة او بخش او شِتَايَة
وكثيرا ماتطول البسطة على الزرب
فقد كانت الزروب وسيلة تواصل بين النساء
وكن يجتمعن في الليل على شاهي وقهوة
ويلعبن معا لعبة البنات المفضّلة (الدّسّيس )
وتمضي لياليهن في ضحك وسرور واحاديث لاتنتهي
حيث تشق ضحكاتهن العميقة والطويلة عباءة الظلام
فقد كانت ارواحهن بسيطة وراضية وخالية من تعقيدات الحياة
وكن يخرجن الى الجيران والمناسبات معا
وفي المناسبات كن يقمن بكل شيء معا
يتحنّين ويتشيظرن ويعضين مع بعض
وكل واحدة تُرِي الاخرى اشياءها ثوب اوقطاعة ومصرّ
كن اربعة اجساد بروح واحدة
كان علي شقيق ليلى ذو التسع سنوات هو شقيقهن جميعا وكلهن يحببنه كاخ
وكان هو رجلهم في الطلبات اذا احتجن شيئا
وهو ايضا مستودع اسرارهن الخاصة
حيث حفّظوه عبارة عالم الفتيات الشهيرة ( لاتبيّي حد ياعلي ) حتى اصبح امين اسرارهن
وايضا كان رسول العتاب في حالات الزعل !
والمناوس لهن جميعا
حيث يرينه رجلا وليس طفلا
وكان من اسرار بسطتهن
ان كل واحدة يربطون اسمها بشاب من الاقارب
ويعلقون عليها باسمه وهي تعمل نفسها زعلانة
لكن الاسم يبقى في ذاكرتها
فشريفة ليحي ابر علي
وزهرا لحسين ابر محمد
وفاطمة لجبران ابر يحي وليلى لعيسى ابر حسين
كانت الاسماء مجرد احلام على الالسن
بينما هن منغمسات في واقعهن بكل بساطته
ومضت بهن الحياة سريعا
حيث انخطبت شريفة
وفرحن لها كثيرا
ولم يكن الخاطب يحي ابر علي كما كن يعلّقن عليها بل شخص اخر من القرية وتزوجت شريفة فعلا وانتقلت لبيتها الجديد
وانشغلت بحياتها ومسؤولياتها الجديدة
رغم زيارات البنات لها وحرصها على الاجتماع معهن
وفي يوم من الأيام طلبت منهن شريفة ان يلتقين في بيت اهلها لتخبرهن بامر
وفعلا تجمعن وخلال البسطة اخبرتهن شريفة انها حبلى فجن جنونهن وهجمن عليها يباركن لها
ويتحسّسن بطنها
وقالت فاطمة : حلّيتي بها والله انها سميّتي
قالت زهرا : والله الا سميتي انا ، انا خالتها
قالت ليلى :
ولح والله انها سميتي
واضافت : هيا بنات نهب كَمْيَة ( قرعة )
وهبوا كمية وشريفة تضحك
وطلع اسم ليلى
قالت شريفة : يا سيدي جوزي قد قال ان هو صبا فيصل وان هي صبيّة مُنى
فرددن عليها بصوت واحد : مه مه ما يشى لها سمية تهب لها كسوة ونِحْلَة
فقالت زهرا : انا انا يابنات لتجوزت اسمي بكن
وبعد فترة انخطبت ليلى
لكن ليس لعيسى ابر حسين بل لشخص اخر من ابناء القرية وتزوجت ليلى وانتقلت الى بيتها الجديد
واصبح باقي البنات يزرنها فيه
ثم تزوجت فاطمة وتزوجت بجبران ابر يحي وهو من كن يعلقن باسمه عليها
واصبح لها بيتها المستقل
وبدأن المتزوجات يدعين لزهرا ان يأتيها نصيبها وهي تقول : آمين يارب ويدخلن في موجة من الضحك البريء
وفعلا بعد ثلاث سنوات انخطبت زهرا لغالب اصغر اشقاء فاطمة وتزوجت وانتقلت معه الى بيتها الجديد
واخذتهن مشاغل الحياة
ومضى بهن قطارها
حيث انجبن وكبر اولادهن وبقيت القلوب وفيّة لذكريات الطفولة
حيث كن يحرصن على الالتقاء كلما ساعدتهن الظروف
ليقضين اوقاتا جميلة مع بعض
لكن بارواح اقل انطلاقا
وضحكات بطيئة وقصيرة
حيث اصبحت قصص الجلسات قصص ملوّنة بتعقيدات الحياة ومشاغلها ومشاكلها وهمومها وصعوباتها
مضى بهن قطار الحياة دون ان يشعرن بتسارع السنوات بسبب مشاغل البيت والاولاد
حتى قالت لهن شريفة في يوم :
بتي منى انخطبت فصرخن وهجمن عليها مباركين وقمن يرقصن وينشدن
وقمري شل بتنا
قمري شلها وراح
فقد كن يعتبرن منى بنتهن جميعا
ووقفن معها في كل تفاصيل الزواج تحضير وترتيب وتنظيف حتى انتقلت العروس لبيتها .
وفي يوم من الايام صدمن صديقات الطفولة بوفاة شريفة اصغر ابناء فاطمة وعمرها سنتين بعد مرض اصابها (وهي سميّة صاحبتها شريفة )
فدخلن كلهن في موجة حزن وبكاء حادة ومؤلمة
وبقين معها باجسادهن وقلوبهن قرابة الشهر
وتركت وفاة شريفة حزنا كبيرا في نفوسهن جميعا
لمدة طويلة حيث شعرن ان جزءا قد مات من كل واحدة منهن
وبعد سنوات من الاستقرار وثلاثة ابناء تزوج زوج ليلى عليها باخرى
وانصدمت وبكت كثيرا
ووقفن صديقاتها الى جانبها يواسينها
بل واصبحن يراعين وضعها حتى في تجمعاتهن وبسطتهن
وواصلت الحياة مفاجآتها لصديقات الطفولة
ففي سنة من السنوات وفي عصر احد ايام شهر رمضان وقع حادث سيارة على زوج زهرا غالب وهو يقطع الطريق وتوفي
فكانت صدمة العمر لزهرا ولفاطمة شقيقة غالب
وهو ما كسر نفوس كل الصديقات الاربع
حيث خيم الحزن عليهن طويلا واصبحت لقاءاتهن شاحبة وحزينة يسيطر عليها الصمت والخوف والقلق وتغيب عنها فرحة ودعابات وضحكات الماضي الجميل
وفي ليلة من الليالي وهن متجمعات عند شريفة في بيتها قالت لهن : بنات ليتنا بقينا على الطحين والحطّبة والعلّفة اَرْيَح لنا من هذا الهم
فقالت فاطمة : واحنا طحانه ومحطّبة كان نشى الفكة من تعبها
قالت ليلى : الدنيا كلها تعب ياسيدي
وقالت زهرا :
انشهد الدنيا كلها تعب
الطحين والحطبة تعب
والحمل والولادة والغِضْيَة تعب
لكن الموت تعبه وحده وانفجرت باكية
فبكين جميعا معها
فقالت فاطمة : هيا روّحنا يابنات
وخرجن من عند شريفة
وظلمة الحزن تغشى قلوبهن
وظلمة الليل تحيط باجسادهن
حيث افترقن
لتعيش كل واحدة حزنها لوحدها
ففي الفرح يمكن للاخرين مشاركتك احساسك بالسعادة، اما في الحزن
فلا أحد يستطيع ان يشعر بالحزن او يعايشه مثل صاحبه ابدا ،
لقد اكتشفن صديقات الطفولة
ان الحياة ليست بوجه واحد بل لها عدة اوجه
وان البشر يحلمون باشياء كثيرة لكنهم يحلمون بصورها الجميلة
ولايرون ماوراء تلك الصور !
واكتشفن
ان محطات قطار الحياة
ليست كلها محطات سعيدة بل فيها كثير من المحطات الحزينة
وتعلّمن انه لابد لمن يريد ان يعيش الحياة براحة وهدوء
ان يؤمن بهذه الحقائق ويتكيّف معها .