مقالات مجد الوطن

اغتراب

 

محمد الرياني

 

لأوَّلِ مرةٍ أقرأُ على قسماتِ وجهِ الرجلِ الآسيوي معنى الغربة، بدتْ على جبينه بعضُ التعاريج، كان يضعُ في رغيفِ الخبزِ حشواتِ الطعامِ وينظر إليَّ باستغرابٍ وكأنه يتساءلُ عن تأملي غيرِ المعهود، وأنا أنظرُ إلى التعاريجِ التي رسمتْ على جبهتِه مرارةَ الغربةِ تخيلتُ أنَّ أمه بعثتْ إليه عبرَ الأثيرِ بيتين من الشعرِ تشتكي حالها أو تصفُ حالَه في الغربة، ظلَّ ينظرُ نحوي وأنا أنظرُ إليه حتى فرغَ من مهمته لإطعامي، ناولني القرصَ المحشوَّ بالبيضِ المقليِّ والطعميةِ التي تعلَّمَ صُنعَها من مغتربين مثله ووضعَ مع البيضِ والطعميةِ بعضَ البطاطسِ المقليَّةِ والبهارات، لم أفكر مطلقًا في كميةِ السُّعراتِ في اللوحةِ المعلقةِ أمامي التي تحددُ كميتها، غادرتُه لأشتري من مكانٍ مجاورٍ كوبًا من عصيرِ البطيخِ المفضلِ لي، لم أشأ أن أتجرعَ مرارةَ غربةٍ كتلك الغربةِ التي يعيشها العاملُ النحيل، ولأني أريدُ المزيدَ من معرفةِ تفاصيلِ الاغترابِ اتجهتُ إلى الوادي القريبِ لأتأملَ أجنحةَ الطيورِ ومناقيرَها وهل العصافيرُ في الوادي تشعرُ بالمرارةِ في الصباحِ الذي بدا مسودًا وكأنه يعيش معنا الغربةَ بعد فراقِ الليل، جلستُ على عُشبةٍ نصفُها أخضر ونصفُها الآخر يتجهُ لأن يكونَ يابسًا، هبطَ إلى جواري طائرٌ يغردُ بألمٍ ويَحكُّ بطنَه الصغيرَ بإحدى رجليه، اكتفيتُ بوضعِ قليلٍ من الحشواتِ الزائدةِ من طرفِ الرغيفِ وفتاتٍ من الخبزِ له، تغيَّرَ صوتُه للأجملِ بعدَ أن نقرَ نقرتين من الطعامِ القليلِ وانطلقَ بفرح، عرفتُ ذلك من تغريدتِه المنتشية، سرعان ماعادَ ومعه سربٌ في مثلِ عمره، دمعتْ عينايَ فألقيتُ لها نصفَ مامعي من طعامٍ وسكبتُ لها العصيرَ على أرضٍ ملساء ليتذقوا السُّكرَ في عصيرِ البطيخ، سألتُ نفسي! هل العصافيرُ غرباءَ مثلي وقد جاءوا من أعشاش قريبةٍ وحولها أغصانٌ طريةٌ وسنابلُ ملأى في فصلِ الخريف، كتمتُ عبرةَ الغربةِ وجلستُ أخطُّ على الأرضِ خطوطًا غيرَ مفهومة، لم تكن كتابةً بالحروف، كانت تعاريجُ تشبهُ إلى حدٍّ كبيرٍ تلك التي رأيتُها على جبينِ المغتربِ الذي لم يسألْني ولم أسألْه عن وجهِ الشَّبَهَ بيننا، كان بيننا حاجزٌ زجاجيٌّ امتصَّ بعض العبَراتِ قبلَ أن تنفجرَ في أولِّ الصباح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى