الكاتبة/أحلام أحمد بكري
مدينة/جازان
……………..
لا يهم اتساخ ملابسنا و غير مهم لفح حرارة الشمس الملتهبة في قيض الظهيرة بعد العودة من المدرسة وغير مهم التعب الذي نشعر به بعد نهار دراسي طويل..
صُراخ أمي عند وصولي للمنزل وإلقاء حقيبتي المدرسيّة في منتصف باحة المنزل والخروج سريعاً لأزقة الحارة كي أستبق فتيات الحي وانغمس في اللعب معهن ، غير مكترثة لنداء أمي كي أساعدها ببعض أعمال المنزل ، أمي تُنادي صارخةً وأنا أُجيبها بأعلى صوتي نصف ساعة يا أمي ألعب وأعود لك..
.
عام ١٤٠٣هـ ١٩٨٣م فتاة الحادية عشر لا يُمكن أن يفوتها شيء من ألعاب الحارة ، لعبة السباق ولعبة الكُندِي ، ولعبة الماء والثلج ، لعبة نط الحبل ، ومضايقة أولاد الحارة بالدخول ساحتهم أثناء لعبهم بكرة القدم ، صراخهم المستمر علينا و هروبنا جريّاً بعد تعكير أمزجتهم ..
.
عندما يتملكنا العطش أنا ونوار وحليمة وعيشة وآمنة ورفيعة ننطلق لمنزل الهام بحكم قربه من منطقة لعبنا ؛ لننهل من خزان منزلهم القابع في زاوية ساحة المنزل ويغطيه سقيفة من العريش الخشبي مما يجعل الماء بارداً بعض الشيء ، ندخل ونخرج في حالة من التدافع ، نُشكل جزء كبير من الفوضى داخل منزل الجيران ونخرج بعدها بسرعة البرق ؛ ليتسنى لنا اكمال اللعب ..
.
كان يقبع دائماً أمام باب منزلهم ذاك الشاب الوسيم ذو البشرة السمراء والشعر الناعم المتطاير على جبينه ذو القامة البهيّة والجسم الممشوق ، يمتلك دُكان خشبي صغير صنعه بنفسه على جدار منزلهم ، عبارة عن أرفف خشبية يحيط بها من الجوانب باب خشبي ، تم دهنه بطلاء أزرق اللون ، يُغلق بذراعٍ حديدي متوسط الحجم يحيطه خبث الصدا ، مُعلق به قفل ومفتاح من الحجم الصغير ، على الأرفف أغراض متعددة منها أدوات نجارة خفيفة وبعض من الخشب وسكاكين حادة وآلة صغيرة لنفخ عجلات الدرجات الهوائية..
.
كان يستخدم كل غرض على حِدى ، فنجدهُ نافخاً بآلته الصغيرة عجلات الدرجات الهوائية لصبيّة الحارة حيناً ، صانعاً خشب لعبة (المداوين) حيناً آخر ، ومزوداً لها المسامير الحادة ، بعد أن يقوم ببردها بآلة المبرد اليدوي ؛ كي يتمكن اللاعب بها من تدويرها باحترافيّة بين الرمال وعلى الأسطح الجبسيّة والشارع الإسمنتي و على سيراميك أو رُخام المنزل ، كان بارعاً في صُنعها ، ونجد الكبار قبل الصغار يقفون في حالة اصطفاف ليحصل كل واحدٍ منهم على (مدوان) من يد المُحترف – عيسى عثمان بشير – ..
.
بينما نحن الفتيات موعدنا معه بعد صلاة العصر ، حيث يُعاود فتح دُكانه الصغير مُخرجاً منه السكين الكبير وآلة سنّ السكين ، و خشبة طويلة ثقيلة غليظة يرميها على الأرض التي يفترشها بقماش الخيش ، ثم يدخل للمنزل ويغيب لبضع ثوانٍ ونحن وقوفاً في حالة ترقّب ولهفة للشيء الذي ننتظرة في موسمه من كل عام ، إنه الكيش المُمتلئ (ثمرة الدوم) الصلبة بنية اللون..
.
وما أن يخرج حاملاً على كتفه كيس (الدوم) يُلقيه على الأرض حتى تتعالى أصواتنا بالصراع والهتاف رافعات أيدينا ، وفي يد كلٍ منا بعض الهللات ، لشراء حبات (الدوم) كان يصرخ علينا ضاحكاً بابتسامته الجميلة ، مازحاً معنا إذا لم نلتزم الهدوء لن يشرع بتكسير (الدوم) لنا ، نهدأ بعدها ونرقب طريقة وضعهُ لثمرة الدوم على الخشبة الغليظة مُثبتاً لها بيده اليسرى رافعاً اليُمنى بسكينه الكبير ليهوي على الثمرة قاطعاً طرف جزئها اليمين ، ولا أنسى الهلع الذي يُصيبنا ما أن يرفع يدهُ بالسكين ، يُخيّل لنا بأن السكين ستُخطئ مسارها وتقطع يدهُ ، وما يزيد رُعب الخيال ويوقظه في ذات الوقت ، الصوت القوي الصادر من قوة ضربة السكين على الخشب الغليظ ..
.
مشاعرنا وقتها خليط بين سيناريو الهلع من مشهد السكين وقوة الطرق و سيناريو الفرح بإمتلاك حبة(الفرص) البيضاء اللؤلؤية المُمتلئة بشهد مائها..
.
رحمك الله أبا محمداً ، إلى جنات الخُلد في فردوسها الأعلى..
……………..