بقلم : اللواء: عبدالحميد عطيف
يمكن تصنيف ( صالحة ) كقصة قصيرة تختزن في طيَّاتها قصة طويلة، وهي من إبداعات الأديب محمد المنصور الحازمي أحد أعيان منطقة جازان ورموزها في الأدب والإعلام ، والقصة بالرغم من تمحورها حول بطلة القصة التلميذة ( صالحة ) ،إلّا أن البطل الحقيقي للقصّة هو الذات الكاتبة ،والواقع الموضوعي الذي استمد منه الكاتب رؤيته ومادته ومعالجاته السرديّة ، وأحياناً يكون من المهم لفهم أبعاد النصّ الأدبي معرفة فلسفة الكاتب الفكريّة، ودوره الثقافي والريادي في بيئته الاجتماعيّة ، والذي يبدو من خلال لغة القصة واحداثها أنه ينطلق في كتاباته من مركز اجتماعيٍّ ،وموقف ثقاقيِّ رياديِّ ،يهتم بقضايا المجتمع الفكريّة والحياتيّة ، وليس كالأدب من شعر وقصة ورواية مجالاً خصباً لنشر الوعي والتنوير، والرؤى الاصلاحيّة، وتسليط الضوء على القضايا والمشكلات العامّة .
بدأ الكاتب حياته معلماً ثم قائداً مدرسيّاً، ولعل هذا مايفسر إيغال القصة في الجوانب الإداريّة ..
.. جاءت ( صالحة ) كقصة متخيّلة للتعبير عن واقع موضوعي قديم غير قابل للاستنساخ ،ولتوثيق مرحلة متقدّمة من مراحل التطور العلمي والثقافي والإبداعي والإداري للمجتمع وتسليط الضوء على العوائق التي كانت تعيق النبوغ والحراك الثقافي من خلال أحداث القصة وما تعرضت له بطلتها من إعاقاتٍ بشريّةٍ متعمّدة ..
على الرغم من أنَّ المؤلف لم يتطرق إلى البعد المكاني والزمني والبيئي للقصة ؛إلّا أنني ومن خلال ما ورد في ثنايا السرد من إشاراتٍ وتعبيراتٍ أعتقد أنها تتحدث عن حقبةٍ زمنيةٍ ترجع بداياتها إلى بدايات انتشار تعليم البنات في المملكة؛ وتمتد في فترة الثمانينات والتسعينات الهجريّة ، وهي تضمُّ مرحتلين من مراحل التطور التنموي والإداري والاقتصادي يمكن وصفها بمرحلة ما قبل ؛ومرحلة ما بعد الطفرة الاقتصاديّة ، وفي حين تميزت المرحلة الأولى بالبساطة الاجتماعيّة وشيوع الأميّة والفقر وضعف المقومات الاقتصاديّة،تميزت المرحلة الثانية بقوة الحراك الثقافي والفكري والتطويري والإصلاحي، تزامناً مع انتشار التعليم، وتعدد وسائل النشر والإعلام والثورة التحديثيّة والنهضة العلمية والاقتصاديّة التي عمت المملكة، بما فيها منطقة جازان الحيِّز المكاني الكبير والبيئة الاجتماعية للقصة ..
اختار المؤلف الاسم ( صالحة ) عنواناً لقصته، وهو اختيارٌ قد يكون واعياً باعتباره اسماً محبباً، أو باعتباره اسماً شعبيّاً شائعاً في قرى جازان، أو قد يكون الاختيار لا واعياً ومنبثقاً من رمزيّة الاسم الدالِّ على الصلاح والإصلاح ،كانعكاسٍ ذاتيٍ لواقعٍ موضوعيٍّ يتسم بالمحافظة والتشدد من جهة، وبالانفتاح الحضاري والتجديد من جهة أخرى، وقد صاحب ذلك تنوع في الجدل الثقافي الإصلاحي بين دعاة الأصالة ،ودعاة المعاصرة والتحديث،ومعبراً عن دور المؤلف الريادي في مثل هذا الحراك الاجتماعي ، هذا فضلاً عن كون تعليم البنات كان جزءاً أصيلاً من وعي المجتمع وقضاياه، بين متمنّع ،ومتقبل لهذا المنحنى الحضاري الجديد ، لهذا فاختيار الاسم جاء موافقاً لرسالة القصة الفكريّة ،وأهدافها الاجتماعية ورؤيتها الاستقرائية النقديّة .
ومن هذا المنظور انطلقت القصة لتعبر عن ذكاء الطالبة ( صالحة ) الفطري، وقدراتها الذاتية، وطموحها الحياتي، باعتبارها نموذجاً ورمزاً لبنات جيلها اللاتي اقتحمن مجال الدراسة والتعلّم وتحدين تلك العوائق الاجتماعية والاقتصاديّة والفكرية والعادات والتقاليد المتزمتة، واستطعن بإمكاناتهن المتواضعة من تحقيق قصب السبق والمراكز المتقدمة في الركب، ومواكبة متطلبات العصر والتنمية ومزاحمة الأكتاف، فيما كان حكرا على الذكور ، وقد ساعدها على تحقيق تطلعاتها وعي الأسرة ممثلةً في الأم والأب وإخلاص معلماتها في أداء رسالتهن ..
ككل البيوت الفقيرة المعتمدة في حياتها على بضع رؤوس من الغنم وعلى الزراعة الحقليّة المتواضعة كان بيت والد صالحة الغني بالحب والأمنيات العريضة ،والآمال الكبيرة ومنه انطلق المؤلف ببطلته عبر أروقة المدرسة الابتدائية المعمورة بخشب الأثل، والمسقوفة بالقش ،والمنارة بأشعة الشمس، وبريق عيون الطالبات، ليتدرج بها عبر مراحل العمر والحياة، وتعاقب الفصول، والسنوات، لتكمل تعليمها الجامعي .
وحين تفتق ذهنها، ونضج وجدانها، واكتشفت موهبتها الأدبية، انطلقتْ من إمكاناتها المادية المتواضعة، تبني مستقبلها الأدبي، مستغلةً صفحات الدفاتر المدرسيّة البيضاء، والأوراق المهملة، لتدوِّن أفكارها، وتكتب قصصها المجسّدة لهموم وشجون مجتمعها، وطموح فتيانه …