مقالات مجد الوطن

(تمنُّع)   

 

الكاتبة : أحلام بكري

(١)

أفقت على رنين هاتفي المتنقل

ووسط الظلام الحالك لغرفتي جالت يدي حول السرير تبحث عنه حتى وجدته ، قلت بصوت مثقل بالنعاس:

نعم ..

قال لي بصوت رقيق:

‏أحتاج حضوراً يليق بعظم عشقي لك..

‏كهواء يدخل رئتيكِ ؛ متسلل عبر نافذة ، يحضر معهُ عليل الزنبق وزهو العشب..

(استويت جالسة على السرير بعد أن عصف بي صوته قبل حديثهُ ، كما عصف بي الظلام..

‏لست مدركة إنه هو المتحدث

‏ولكن كل ما فيني يرجف ‏طرباً..فرحاً..نشوةً)..

قال : أين أنت..؟

قلت له:

معك وأسمعك..

مضى وقت كبير قد تناسيتك فيه ونسي الزمن لقائك..

قال: أترفضين لقائي..؟

قلت : نعم..

قال: ‏لن أرضخ لسياسة التمنع

‏سأقيم ثورة

‏وأقلب الحكم عليك

‏وأبني لي حكومة جديدة

‏أساسها الشغف

‏ونهجها البذخ..

‏تمنعي وتمنعي..!

‏وبلحظة سأجبرك على حضني وأنفاسي وثغري..

(بعد هذه العبارة أطلقت ضحكة مدوية أشبه بالقهقة)..

وقلت له: أتركني أكمل نومي ، عفواً (حُلمي) ، وداعاً..

أغلقت الهاتف وأرخيت رأسي على وسادتي وأطلقت تنهيدة عميقة محدثة نفسي:

‏كيف سيأخذني النوم

‏وهو يداعب جسد فكري..؟!

……….

(٢)

عاود الاتصال بي ليلاً بعد مرورِ دهرٍ ، قائلاً :

بين شِفاهكِ الاحتواء

‏وبين أضلعكِ الاكتفاء

‏وكلُ لحظةِ لقاءٍ بكِ

‏من نعيمِ الحياة..

قلت :

ألم أودّعك منذُ فترةٍ قائلةً دعني أكمل منامي..؟!

قال :

‏قلوب كثيرة تهربُ من الواقعِ وتذهبُ للنومِ..

‏بينما قلبي يرحلُ من الواقعِ ليستقر ُوينامُ بأعماقكِ..

قلتُ بعد تأوّهٍ عميق:

‏أتوق أن أرحلَ عن الواقع لأعيش في مخيلتي أنا ، أنا فقط..

قال بخوفٍ:

لا لا ، رجوتكِ ؛ ‏أرحلي للنومِ أملاً بحلمٍ يجمعني معكِ..

قلتُ ساخرةً:

تنامُ طويلاً ثم تستفيق على أمل أن أجتمع بك بعد أول اتصال ..؟!

متناسياً أننا ‏افترقنا وذهبتَ وذهبتُ ..!

قال بأسف:

ولكن تفكيري بك لم يفارقني ، كأنك اغتلتِ النسيان بي وقرأتِ وختمتِ على قلبي تعويذةَ غرامٍ أبدي..

قلتُ مبتهجةً:

إذاً مازلت بداخلك تُحب وتشتاق..؟!

قال:

نعم ، الحب لا يخبو ، المشاعر لا تموت ، بل تحتضر ..

وفي رمقها الأخير يتم إنعاشها بهمسةٍ بلمسةٍ بموقفٍ بطيفٍ ..

ومازال القلب يستعرُ بنارِ الجوى..

قلت صارخةً بحدةٍ :

أصمتْ ؛ ‏كل شيءٍ أستطيع فعلهُ ، فعلتهُ ، إلآ شيءً واحداً فقط عجزت عنهُ وخذلتني إرادتي وقدرتي ، انتزاعك مني ، رغم إساءتك لي واهمالك المتكرر..!

قال بأسى:

أنا آسف على ما بذر مني..

قلت له غير آبهة لأسفهِ:

اشتريتُ سلام نفسي

‏وقلتُ للمسيئين سلاماً..

(أغلقت الهاتف المتنقل على وضع الطيران ، ودخلتُ نوبةً من البكاءِ ، يترددُ بأعماقي)

‏ممتلئة منك وجع ، أفيضُ حُزناً ، حدّ البكاء ..

………..

(٣)

‏تمر الليالي وأنا أنتظر ذلك القابع بالذاكرة..

أرقب الهاتف لعلّهُ يتواصل..

(يُقاطعني عقلي)

لا لا ، لن يتصل فقد قسوت عليه بآخر اتصال ، كما قسى على روحي بالهجر والبُعد..

(يستل قلبي سيفهُ مشهوراً أمام عقلي)

ماذا أفعل بقلبي المتلهف ، آه من اللهفة ؛ تشيخ اللهفة وتهرم

‏وتصاب بخرف الذاكرة..

‏ثم بلمسة حبيب تتورد

‏ لتعود يافعة شابة..

(يعود العقل بحديثهِ)

أخاف أن يخذلني الصبر في معركتي معهُ فيعتريني العجز ، ويُعرّيني أمامهُ..

أبدأت أضعف..؟!

(نظرت بحدةٍ لهاتفي ، محدثةً قلبي)

ما الذي سيحدث لو كنت المبادرة بالاتصال..؟!

لن ينقصني شيء..!

(يزعجني حديث قلبي)

ولكن لو هاتفتهُ ، ماذا أقول لهُ من حديث ..؟!

فعندما يدركنا الشغف

‏تصاب المفردات بالعطب..

‏وتعجز حواسنا عن البوح..

‏رغم الطموح بإطفاء اللهيب..

(بعد لحظة صمت)

على عجالةٍ أخذت الهاتف ومن أول محاول للاتصال ، رد سريعاً..

قائلاً: أهلاً بمن أنتظرهُ..

(رجف قلبي وأغلقت الهاتف ، لاعنةً هذا الشغف)

عاود الاتصال ، وترددت بالإجابة ثم هدأت من روعي وأجبت بصمت مطبق..

قال: ‏لا أجمل من واقع يجمعني معك

‏إلآ حلم يسري بي إليك..

(ألجمني الرد وتشبثت بالصمت لفترة)

قطعهُ سائلاً متعجباً : لماذا الصمت..؟!

‏أتعلمين ؛ صدى صمتك صارخاً..؟!

قلت بعد تأوهٍ:

‏الحياة لا تتوقف عند فراق شخص ..

بل المشاعر تظل حبيسةً لهُ..

قال مبتهجاً:

‏أرقب هاتفي وأنتظرك ، أبحث بين السطور لأستشف روحك علّها تُزهر..

قلت بحرقةٍ:

كنت سيء معي..

قال:

‏مخيرة أنتِ..!!

‏أينما وجهتي وجهك ويممتهِ نحوي..

‏أن تريني بذاك السوء

‏أو بذاك الطُهر ..

‏أصبغيني بكل درجات السوء

‏ولوني كل كوني..

‏سأظل أعشق تفاصيلك..

قلت:

دعني أُفرغ الغضب الذي بداخلي منك ، ومن ثم أعاود الاتصال بك..

قال: كما تشائين إنني بانتظارك ..

وتيقني ‏رغم كل ما يحدث حولي وما يحيط بي من سوء..

‏روحك فقط تبعث الفرح في قلبي..

وداعاً على أمل منك باتصال قريب..

(أغلقت الهاتف وهرعت للنافذة لأفتحها على مصراعيها محدثةً روحي)

‏تباً للشغف ، بفعل الوقت ، الغضب يهدأ والعتب يزول والكبرياء يتهاوى ، ولا يبقى سوى لوعة الحب تشي نارها..

…………

(٤)

‏(أبحث عن اللحظة التي ينبض بها قلبكِ بأضلعي..

طال فراقك افتقدتك..)

كانت رسالة نصية ممن طال انتظارهُ لي..

بعد أن وعدتهُ أن أتخلص مما أصاب روحي بسبب غيابهُ وهجرهُ

ثم أعاود الاتصال به..

قرأت الرسالة كثيراً ، وفكرت أكثر..

ثم قررت أن أبعث له رداً..

أخذت الهاتف وبدأتُ أكتب..

(‏عن حديث الفراق

‏لا تفترق الأرواح

‏بل تفترق الأجساد..

‏حتى بهيبة الموت

‏الفراق للجسد

‏والروح تُزرّع في خواطرنا)..

في البدء ترددت بإرسالها ثم بعثت بها..

وبعد دقيقة كان ردهُ لي عبر اتصال هاتفي..

وبصوتهُ المرهف لقلبي المرعب لروحي قائلاً:

لماذا الكآبة..؟!

قلت له:

‏الشك ابن عم اليقين ، ولكنهم دائماً على خلاف..

وأنت لقاؤك شكّاً وفراقك يقيناً..

قال ضاحكاً :

ما يزال قلبك ممتلئ غضباً مني ..!!

وأنتِ بدون شكٍ وعلى يقين بأني ‏أبتغي الدفء و يلتحفني البرد..

‏أطلب الارتواء وتتمزق أوردتي جفافاً..

‏أطمح الوصل وتُبنى الحواجز وترتفع الأسوار ، للإقصاء والعزلة..

هلّا ترفقتي على روحي بلقاء..؟؟

قلت : وماذا أفعل بكبرياء قلبي..؟

قال على عجالة:

‏اشتقت شغفك وافتقدت شغبك ..

كم أهوى كبريائك وعناد طبعك ، الذي طُبع في قلبي..؟!

واشتقت لك..

قلت : تباً للكبرياء الذي يعقبهُ انهيار..!

قال بصوت خافت :

‏دائماً خلف الكبرياء

‏بكاء يثير الشفقة..

وأنا لا أُريد مزيداً من الدمع..

‏والانهيار ليس بالضرورة ضعف ..

بل ثُقل يمر به الإنسان ..

قلت بلهجةٍ مازحةٍ :

أخوف ، أم جبرُ خاطرٍ ..؟!

قال : بل خوفاً من فقدك مجدداً..

وطمعاً بلقائك..

قلت بسخرية ومن باب التعجيز : أتريد رؤيتي ..؟

قال : نعم..

قلت : فليكن الآن ..!!

قال بتلهف : إذاً ؛ أستميحك عذراً بفتح باب منزلك فأنا أمام المنزل..

( اعترتني رجفة ولجمني الصمت وصبغني الهلع بكل ألوانهِ المعتمة)

قلت بعد أن تماسكت :

لا تستخف بي فنحن في منتصف الليل ولا أتوقع أن تحادثني وأنت أمام منزلي ..

( وما أن أكملت حديثي إلا وجرس الباب يقرع ، ألتفت بقوة لباب المنزل ، وحديث نفسي يقول أيُعقل ..؟!)

قطع حديث نفسي بقوله :

ألم تسمعي قرع الجرس..؟

قلت : بلى..

قال : رجوتك لقاءً ، افتحي الباب..

(زادت ضربات قلبي هلعاً ، هناك ما يجعل القلب يخفق ويهتز ويرتجف ..

حضور مفاجئ لحبيب لا تتوقع وجودهُ..)

أغلقت الهاتف وتوجهت مباشرهً نحو الباب ..

(كانت خطواتي مثقلةً مترددةً

وأطرافي متجمدةً..

وكأن بيني وبين الباب بحراً غادراً ؛ أخاف خوض غِمارهِ..

أو معركة أرى حتفي بها)..

وما أن وصلت للباب فتحتهُ بتوجسٍ..

(وتجلى أمامي ، مبتسماً هادئاً..

وأنا أخوض معاركي وحيدةً)..

قال بلطف :

أمساء ، أم صباح الخير..؟

قلت بعد أن لملمت شتات نفسي:

ماذا تحمل لي ، ليلٌ معتم أم صباحٌ مشرق..؟

قال :

‏عذراً حبيبتي ؛ لا أحمل لك إلآ قلباً رفض أن يشعر بغيرك..

ولم يتحمل بعدك..

وعجز أن ينسى أو يتناساك..

وفشل فشلاً ذريعاً في انتزاعك من حشاياه..

هو ممتلئ بك..

أتعلمين ..؟

قلت : ماذا..؟؟

قال : كل حديث معك يدور بيننا عبر الهاتف وأنا قابع أمام منزلك..

أملاً بلقاء..

(وما أن أكمل حديثهُ حتى جذبني بقوة إليهِ ، شعرت وقتها كأنني ريشة بين يديه ، هامساً بإذني)

‏من عمق الصعوبة

‏وبدقائق المستحيل

‏تزهرين بين أذرعي

‏وتفوحين عطراً معتقاً..

(خانتني أدمعي وانسكبت..

بعد أن زلزل حديثهُ مسمعي قبل قلبي ، لا أعلم أكانت فرحاً أم خوفاً)

قاطع نوبة بكائي قائلاً :

ألم أقل لك لا أريد مزيداً من الدمع..؟!

قلت :

‏شيءٌ ما بداخلي ينبض

شعور مبهم مختلج بالقلب

‏ولا أعلم كهنه..

قال : وأحبك كيفما كُنتِ ..

لا عليكِ..

فقد كان وجودي مفاجئاً الليلة..

أغلقي الباب وعودي إلى فراشك وأهدئي..

لي لقاء آخر معك وحديثاً مطولاً..

……..

(٥)

ذلك الهلع الذي أوجده بقلبي ليلة تواجدهُ بباب منزلي ، لم يزل أثره يشل أجزاء جسدي كلما تذكرت تجسدهُ أمامي..

ماذا أفعل بذاكرتي ، لا تهدأ..؟!

أصحاب النسيان في نعيم ؛ يتخلصون من التوتر والقلق والخوف ، ويطوى مع لحظات نسيانهم..

أعلم أنني لن أتخلص من ذاكرتي المتشبثة به ، ولا يمكن انتزاعه من روحي..

إلآ إذا واجهتهُ وكسرت حواجزي وأنهيت معركتي مع قلبي ، قبل معركتي معه..

اخذت الهاتف وعبر رسالة ، قلت له :

أريد حلاً لتواجدك في محيطي..

أحتاج لنقاش يرتب الفوضى التي تحاصرني..

(وما إن بعثت بها ، جاء ردهُ السريع عبر اتصال وبصوتهُ الذي يزيد توازني اختلالاً)

قائلاً:

انتظرت طويلاً كي تصلني منكِ رسالة أو اتصال ، الشوق يعبث بي ، ونفسي أخالها تسكن في خزانة مغلقة لا ضوء يسكنها ولا هواء يجليها..

قلت له: إذاً ، أنت لا تقل شأناً عمّا أنا به..؟!

قال: نعم ، ما بيدي حيلة والقرار يعود إليك..

هل تقبلين بموعد يجمعني بك لأحدثك..؟

قلت: نعم..

قال: إذاً انتظريني الثامنة مساءً ، أصحبك معي إلى شاطئ البحر..

قلت: ليكن ذلك ، أنا بالانتظار..

( كان الصمت يلفنا أثناء صحبته لي للشاطئ ، وما إن وصلنا وجدته قد رتب مكاناً للجلوس)

ما إن أخذت مكاني ، أخذتني الأمواج بعزفها والسماء بسوادها الحالك والهواء الرطب برقتهِ..

قطع انسجامي وقال:

ما الذي تريدين النقاش فيه..؟!

لقد تحدثنا كثيراً ، وجاء وقت حسم الأمور..

قلت له باندهاش: ماذا ستفعل لتحسم أمرك..؟!

(ابتسم بشكل غريب وبكل خفة أخرج من جيبه علبة مجوهرات صغيرة وفتحها أمامي)

قائلاً : تزوجي بي وينتهي الموضوع..!

(أطلقت ضحكة مدوية كسرت صمت الليل على الشاطئ)

وقلت: أيعقل..؟!

أيعقل أن تتزوج بزوجتك الأولى مرتين..؟!

قال: نعم لأنني أشعر بأنك ضرورة بحياتي..

قلت : لا لا ، للأسف كنت بحاجة لزوجة ثانية بحياتك ؛ لتُقنعك بزوجتك الأولى..؟!

(أنخفض مستوى حماسه ، وطأطأ رأسه)

قال : أنا آسف ، فقد كان تصرف أهوج ، من خلالهِ ، أصبحت صغيراً في قرار عيني ، والرأي لك..

قلت : نعم الحل بيدي..

لكن للأسف لم يتفقا قلبي وعقلي على حل واحد معك..

أتعلم ، سأعطيك فرصة أخرى ..

شريطة أن تترك لقراري فسحة من الحرية ، إذا لم ينسجما قلبي وعقلي..

وفرغت منك وعجزت عن تحمل الوضع ، اسمح لي بالانسحاب..

(صمت لبرهة من الزمن ، كأنهُ بدوامة ، تفكيرهُ محتار ، ثم كسر التفكير قائلاً)

ولك ما تريدين ..

إني بحاجة هذه الفرصة وإن كانت مشروطة..

قلت : إذاً قبلت بك زوجاً للمرة الثانية..

……………….

الكاتبة : أحلام أحمد بكري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى