……………
في إحدى المطاعم كُنتُ بانتظار طلبي الخارجي ، أقلب بهاتفي النقّال ، فُتح الباب من قبل رجل خمسيني وخلفهُ عائلة كبيرة -ما شاء الله- زوجة وشابين وفتاة كبيرة ، أتجه للمحاسب طالباً قائمة الطعام وطاولة كبيرة ، دخل ابن له في مرحلة المتوسطة ؛ منادياً عليه أبي أبي : جدّتي جدّتي..!
ملمحاً بأنها تحتاج مساعدة بالدخول ، نهرهُ والدهُ بشدة وقال له : تصرّف ، أشغلتنا بالعجوز..
اتجهتُ ببصري ناحية الباب فإذا بفتاتين في سن الابتدائية يساندنها بالدخول ، وما أن دخلت الجدّة ، حتى نهض من مكانهُ المحاسب الأجنبي مرحباً بها ، قائلاً : (أهلاً بست الكل أهلاً بالبركة)..
وتوجه لأقرب طاولة كبيرة وفتحها وسحب الكرسي للجدّة..
لم أقاوم دمعة فرّت من عيني ساقطة على تصرّف المحاسب وبالمقابل تصرف ابنها الخمسيني..
قال تعالى في سورة الإسراء:
(وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا)آية(23).
.
(الجدّ والجدّة) نعم ، هُم البركة والحلاوة والجمال في هذه الحياة ، وفي التعامل معهم لذّة ؛ لا تضاهيها لذّة في هذا الكون..
وجودهم بوسط العائلة سعادة والتفاف الأحفاد حولهم بهجة والنظر إليهم سرور وغبطة..
لا تضيقوا بوجودهم ؛ رحيلهم سريع ، بين عشيّة وضُحاها..
أعطوا حتى ملّ منهم العطاء ، وربّوا وصانوا وعلّموا وضحّوا ، دون مقابل..
أيُّها الضجِر ، أيّتُها المخنوقة ، من وجود طاعنٍ في السِنِ بمنازلكم ، إنهم السبيل للجنّة ؛ بل إنهم الجنّة بعينها..
الأم ، حملتْ ، فاحملها بحب ، رعتْ ، فارعها بلطف ، طوقتكَ في صغرك بحنانها ، نظافة وملبس ومأكل ، خافت عليك من المرض ، ومرضت معك ، سعدت بسعادتك ، وفخرت بنجاحك وطلبت لك من الله التوفيق ..
الأب ، صرف عليك ووجّهك وربّاك وعلّمك وشكّل شخصيتك وروض الصعاب لك ، حتى أصبحت رجلاً وأصبحتِ سيدة ناضجة..
جاء اليوم الذي تردوا لهم الجميل وتعاملهم بالمثل ..
أخفوا عن الناظرين كل سوء منهما واجعلوهما من النظافة والحلاوة والجمال الشيء الكثير ؛ أظهروهم بأجمل صورة للعيان ..
يحتجن للرعاية الصحية والجسدية والنفسية ، كونوا مع أبنائكم جنوداً مسخرين لهم ليل نهار ، هذا يجلب الطعام والآخر يغير الملابس والثالث يمازح ويؤنس والخامس يجيب على التساؤلات الكثيرة بكل رحابة صدر..
الخَرّف والزهايمر وذاكرة اللحظة ؛ قد طغت عليهم ، والوهن الجسدي المرضي أضعفهم..
.
( كُونوا عكازاً وذاكرةً لهم ) ، بكل حب ولطف وصبر وشفقة ورضا ..
قال تعالى في سورة الإسراء:
(وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) آية (24).
فقد يأتي اليوم الذي يتلاشوا فيه من المنزل ، يخطفهم الموت ؛ ليحلّ الظلام على قلوبكم قبل منازلكم ، فهن بالفعل البركة..
…………..
الكاتبة: أحلام أحمد بكري