بقلم: صلاح عبدالشكور
بعض المواقف تجبرك على الصمت وبعضها تدعوك للحديث وأخرى لا تعرف ماذا تفعل حيالها وكيف تتصرف إزاءها، حقاً لقد كان الخبر صادماً حد التكذيب للخبر ، كنت في جمع من الزملاء والأصدقاء حين وصلني نبأ وفاة الزميل العزيز جاويد البدر – سقى الله قبره بوابل الرحمات- أصارحكم أنني ورغم تأكدي من صحة الخبر من خلال الاتصال بأحد القريبين جدا من الزميل ظللت برهة من الزمن أغصب نفسي على تصديقه وتلك عادة النفوس لا تتمكن من تصديق الصدمة بادئ الأمر، كانت لحظة من لحظات الأسى دارت عليّ الدنيا بكل أحداثها وتقلباتها، وأول ما خطر على ذهني موعداً رتبناه للالتقاء بعد عودته مباشرة يوم السبت فدخلت إلى صفحته واستمعت إلى رسالته الصوتية من جديد وأنا أردد: رحمك الله وتغمدك بواسع الرحمات، إنه الموت المفاجىء الذي أخذ رفيقي وشقيقته في لحظة من الزمن لم تكن محسوبة بتاتاً ولكنها أقدار الله تأتي بغتة ولها موعد يحددها الحكيم الخبير سبحانه ..
أعود بكم إلى الوراء قليلاً لنتذكر معاً لحظة تعارفنا وصداقتنا التي بدأت بفضل الله في خدمة قضية الروهنغيا ونصرة المظلومين عام ٢٠١٣ حين جاءنا الفقيد متطوعاً يعرض خدماته للمشاركة مع المركز الإعلامي الروهنغي ووكالة أنباء أراكان وأذكر في لقائنا الأول أنه قال لي: أنا بين يديكم ومستعد لخدمة القضية الروهنغية بما أملك وأشرف بذلك ! فسألته ماذا تجيد فقال لي: أنا مهتم بجانب الصوتيات والتسجيلات وأعرف هندسة الصوت جيداً ولي خبرة في هذا المجال وأستخدام برمجيات التسجيلات الصوتية، كما أنني أجيد الإلقاء والتقديم إلى حدٍ ما، وأحب الإنشاد؛ فسررت جدا بهذه الموهبة وهذا العطاء وهذا التفاني في دعم القضية، وحين أتيحت له الفرصة أسس رحمه الله استديو صوتي متكامل استفاد منه المركز الإعلامي في برامجه بشكل كبير وكان يشرف بنفسه على الأعمال الصوتية تسجيلاً وهندسة وإخراجاً، ثم بدأ يتدرب في المركز الإعلامي على تقديم النشرات الإخبارية في برنامج “حدث في أراكان” فقدم عشرات النشرات الإخبارية، وكان محل إعجاب كل من كان يتابع نشراته التي كانت تبث آنذاك على قناتي صفا ووصال؛ حتى أصبح مديراً للبرنامج وكان يشرف على تنظيم عمل البرنامج والإعداد له، وكم كنت أفرح حين ألقاه في “الاستديو الصوتي” يستقبل الجميع ببشاشة ويخدم الجميع بلا منة ويشارك في كل برامج الوكالة بروحٍ عذبة لا تعرف التواني والملل ..
ومن البرامج التي عمل على تطويرها وبذل جهداً مباركاً برنامج “حناجر أركانية” وهو برنامج يعنى بتسجيل تلاوات لعدد من القراء الأركانيين المميزين فكان رحمه الله يشارك بحماسة ونشاط مع فريق البرنامج لإخراج حلقاته في أبهى صورة، وبعد ذلك عمل مع مجموعة شبابية على إطلاق برنامج قرآني آخر بعنوان ” سلوة الروح” أسأل الله أن لا يحرمه أجر هذه البرامج القرآنية. وفي رمضان كان رحمه الله يؤم المصلين ويشرف على برامج اجتماعية عدة في مكة المكرمة وخارجها، ومنذ أن تعارفنا وانخرط معنا في أعمال المركز توطدت علاقة الفقيد بأعضاء المركز جميعاً، وكان رحمه الله يخصني بحكايات خاصة كثيرة ومواقف لا تحصى، وكان يستشيرني في كل شؤونه تقريباً، ولا أنسى آخر محادثة صوتية جرت بيننا قبل وفاته بأيام حيث أخبرني أنه سيوصل أهله وسيعود إلى مكة “أعزباً” ويتفرغ للجلوس معي، ولكن قدرُ الله كان أقرب من لقائنا فرحل إلى ربه، دروسٌ كثيرة تعلمتها من حياة أخي جاويد، ومن أعظم ما لمست وتعلمت منه: نقاء صدره للناس جميعاً وصفاء قلبه وحبه للخير فهو لا يعرف الغل ولا الحقد ولا الخصومات، فلا أذكر يوماً أنه ذكر شخصاً أو زميلاً بسوء أو دخل في شجار مع زميل أو رمى أحداً ببهتان ووالله إنه لفي شغل بنفسه عن كل ذلك.
دخلت عليه مكتبه ذات مساء، وكانت تبدو عليه بعض علامات التأثر والبكاء فمازحته قائلاً: هذا هو حال العزوبي شقاء وبكاء !! فنظر إليّ مبتسماً وعرفت أنه كان يبكي فصدمني موقفه وسألته عن حاله فكأنه تحرّج في البداية ولكنه أفصح لي أنه تأثر بكتاب قرأه مرتين وهو كتاب “لأنك الله” للأستاذ علي الفيفي وقال لي: لقد أحيا هذا الكتاب حب الله في قلبي وشرعت في تسجيل مقتطفات من الكتاب بصوتي من شدة إعجابي به، وفعلاً شاهدت بعض الفديوهات على حسابه في اليوتيوب فيما بعد بصوته الجميل وأسلوبه المؤثر ففرحت لذلك كثيراً .. بتاريخ 14 محرم 1441هـ كان على موعد طال انتظاره وكنت معه في كثير من تفاصيل زواجه إلى يوم الزفاف، كان يعبّر لي عن سعادته بزوجته ومدى تناغمهما وما بينهما من حب وود وتوافق، وكنت أسعد بذلك وأبارك له وأقول: “الطيبات للطيبين” .. وفي يوم زفافه كان سعيداً مبتهجاً مسروراً ودعا كل معارفه وأصدقائه، وعشنا ليلة بهية طالما انتظرناها .. وفي عصر هذا اليوم 21 صفر 1441هـ كانت الدنيا مكفهرة في وجهي ووجه كل محبيه .. واريناه الثرى في المعلاة ونحن نتجرع آلام فراقه وغصص رحيله .. لم تنته القصة فلنا لقاء بإذن الله في جنات الخلد لنكمل الحكاية معاً ..
إلهي .. استودعناك جاويداً الرجل الطيب المطيب نسألك بأسمائك الحسني وصفاتك العلى أن تكرم مثواه وتغفر له وترحمه وتسكنه أعالي الجنان ..
نم قرير العين صديقي الوفي وما أوجع ما أنشده الشاعر:
بالأمس كنا بـظهـر الأرض أصـحـابـا
والآن صـرنـا بـجـنــب القـبــر أغـرابـا
حيـاتنـا يـا رفـيــق الــدرب أسئـلــة
مـن الدمـوع تشق الخـد تسـكابـا
أو قـصــة هـربـت منـهــا نهـايـتـهــا
وأثـقلت كـاهـل الصـفحـات أسبـابـا
لـغــز عـرفـنــاه لـكــن لا يـفـســـره
إلا الذي في ظـلام اللحـد قـد غابـا
كأننـا ما ابتسـمنـا قـط وارتـسـمـت
آمـالـنــا كـطـيــور الفـجــر أســرابــا
كأننـا مــا سـكـبـنـا بيــننــا لــغـــــة
يظل شلالهـا فـي القـلب منسـابـا
وما التقطنا نـجـوم اللـيـل وانـتـثـرت
بـدربنـا تـرمــق السـاريـن إعـجـابــا
فانهـار فـي لحـظـة مشـوار رحلـتنـا
كـأنـه مـن جـبـال الثـلـج قــد ذابــا
قـد ذاب ثـلـث ولكـن فـي جـوارحنـا
بـاقـيـه غـاص مــع الآمـال أحـقـابــا
تـسـاؤل ودمــوع العـيــن هــامـيـــة
والقلب يخفـق فـي الأضـلاع وثـابـا
* الصورة في ليلة زفافه ..