مقالات مجد الوطن

يقينًا لا تلقينًا

بقلم..هناء بنت أحمد

هل هُناك تساؤل يراودك اليوم؟ أما عنّي فإنّي اتساءل كثيرًا فكيف لا ونحن في عصرنا هذا؟ وقد لا يدركُ الكثيرٌ ممن يعاصرونه أنهم يعيشون بين زِحامٍ من المعاجز! فمثلًا .. عُد في الماضي إلى قرنٍ واحد فقط .. و أخبرهم أنك تريد ان تجمع الناس في كتلة حديد وتقذفها في السماء كي يذهبوا إلى الشرق او الشمال وسيُعدونك مجنونًا ! نحن اليوم نعاصر خضم كبير من التطور التكنولوجي والانفتاح والتدفق المعرفي الذي لم يشهدهُ أي عصرٍ على الإطلاق! فبضغطة زر يُفتح لك العالم على مصراعيه.. بإمكانك أن تتعرف على شتى الثقافات، وتقرأ جميع الأفكار والمعتقدات والأديان، وأن تسافر عبر الكون وترى مايحدث في العالم، بل وأصبحنا نعرف حتى ما يدور في المنازل! فهنا لو تساءلت ماهو أهم شيء في عصرنا هذا، عصرِ السماوات المفتوحة! لقُلت لك.. أن نخلُق ونؤسس لـِ مهارة التفكير النقدي!

قد تسأل “ولماذا؟”، سأقول لك أقرا الوضع من حولك، فأكبر كارثة هي أنك ترى الأطفال يُلقنّون المبادئ، بدلًا على أن يوقنوا بِها!

فمثلًا.. ترى الطفل يُلّقن، ويُحفّظ أن الله موجود، ومحمدٌ نبيّ، والقرآن كلام الله، وأن ذاك حلال، وهذا حرام.. وعندما يسأل اسئلة في غاية البساطة مثل: “من خلق الله؟”، “إذا كان اللهُ في السماء فأين كان قبل أن يخلُق السماء؟”، “لماذا يخلق الله الشيطان اذا كان يعرف أنهُ سيتكبر ويكفر؟” وغيرها من الأسئلة، غالبًا سيُنهى الطفل عن طرح هاته الأسئلة، ويُقال له: “تعوذ من الشيطان! لا تفكر بهذا مرة أخرى” يتعامل البالغ مع هذه الأسئلة وكأنها مصدر تهديد، ويفهم الطفل من ردة الفعلِ تلك أنها خطوط حمراء فلا يَحِقُ لهُ ان “يسأل”!

فيكبر الطفل ويشبّ بإيمان هش، يحفظه ولا يفهم معناه، لأن السؤال في معناها “ممنوع!”، ثم يُنجب أطفالًا ويعاملهم بنفس ذلك الأساس..
وهذا ما يجعل إيماننا اليوم هشًا، وهُنا تكمُن الكارثة، ففي خضم هذا التدفق المعرفي، لو واجهَ هذا الشاب أو تلك الشابه في مواقع التواصل، شبهة أو سؤال أو طرح سخيف وركيك من مُلحد، سيتزعزع إيمانه بسهولة، قد يُحجم عنها، و يتجاهلها، لكنهُ يعرفُ في داخله، أنهُ لطالما أراد أن يعرف إجابة ذلك السؤال! لذلك تلاحظ أن نسبة ليس من الصحي تجاهلها من شباب اليوم قد ألحدوا، وهذه الظاهرة يجب أن تُفهم وتناقش أسبابها، فليس كل الخطأ على الفرد نفسه، بل هناك خطأ منبعهُ أُسس التربية اليوم، ومقدار الوعي المجتمعي.. فالشاب عندما يواجه تلك الأسئلة يشعر أن هناك ضُعف في التفسير الديني لهذه المسألة، وضعف في الجانب المنطقي، والأمر ليس كذلك، ولكنّ هذه نتيجة الموقف السلبي من المُربين تجاه تلك الأسئلة التي يتعاملون معها بنوعٍ من النفور، هُنا قد تسأل.. إذن ماذا علينا أن نفعل؟ هل يجب على كل الناس أن يتكبدوا عناء التعلم والتثقف والبحث وأن يقرأوا كل تلك الكتب، كي يُجيبوا؟ الجواب هو لا، ليس على الجميع أن يقوموا بذلك وأيضًا مستحيل! لكن ان نُقوِّمَ السلوك تجاه تلك الاسئلة فنتعامل معها بأريحيةِ ومرونه، كي لا يشعروا بأن هناك منطقة متهيجة من التفسير الديني المنطقي، وأيضًا أهم سلاح في هذا الأمر هو “أدوات التفكير النقدي”، فمن تسلح بها، يستطيع ان يواجه كل ذلك الانفتاح من الإختلاف الثقافي والديني والطائفي الذي يواجههُ في الانترنيت أو في الكتب وغيرها..، وهو راسخٌ ومُتمكن ومستوثق من مبادئه، فيتعلم أن يُحلل الأسئلة قبل أن يتعامل معها، فمثلًا لو قرأ تعليق عابر، إذا كان الله خلق كل شيء فمن خلق الله؟

الذي يمتلك أدوات التفكير النقدي سيُحلل السؤال فورًا في رأسه وسيقول:

ماهو مفهوم الإله أصلًا وما هو مفهوم الخلق؟ المعلوم أن الله (أزلي= ليس له بداية في الزمان + سرمدي= ليس لهُ نهاية في الزمان)، وأما الخلق فهو (أن تصنع شيء من لا شيء يعني أن يكون غير موجود ثم تصنعه أنت فيصبح موجودًا)!

وبناءً على ذلك إذا كان مفهوم الإله أصلا انه ليس له بداية، فكيف يحدث عليه فعل الخلق ؟

أنا وأنت وهي وهو جميعُنا لم نكن موجودين قبل 100 عام، والآن أصبحنا في الوجود، فنحن مخلوقون من عدم، أما الإله فهو في مفهومه أصلًا أنه شيء ليس له بداية، إذن من “غير المنطقي” أن يُسأل هذا السؤال! فالسؤال نفسهُ خاطئ.. كأن تسأل : “كم شعره في رأس الأصلع؟” أو “كم مدة حمل الرجل؟”

وبهذه السهولة يتفادى من كان مُتسلحًا بأُسس التفكير الناقد كل ما يظهر لهُ أمامه من السخافات، حتى لو خالط كل الثقافات، فيُحلل ويُدقق ثم يؤمن، لذلك يجب أن نضع كل شيء تحت مِظلة النقد قبل أن ندخله في رؤوسنا، وعندما يتعلم الطفل أُسس النقد، وأنه يستطيع أن يسأل عن أي شيء بأريحية ومرونه، يصبح مُتيقنًا لا مُتلقنًا، ومن هُنا يكون المجتمع قد أدى ماعليهِ في تفادي هذا الخطر الذي يحلُ في شبابِ اليوم.. لذلك يجب أن نتعلم أن نُيقنّ لا أن نُلقنّ، نتحاور لا أن نُحجِم، نفهم قبل أن نسدي بالأحكام.. لنصنع جيلًا مُفكرا.. يعرف قيمة عقلهُ ودينه.. جيلًا واثقًا من نفسه وأكثرَ رسوخًا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى