مقالات مجد الوطن

حَليمة

 

محمد الرياني

منذُ زمنٍ لم أزر الجدةَ حليمة في غرفتها المتواضعة، أُحبُّ أن أجلسَ عندها كثيرًا، في غرفتِها البسيطةِ التي تختصرُ كلَّ تفاصيلِ عمرِها، مذياعها الملبّس بالجلد المعلَّقِ بمسمارٍ يعلو السريرَ الذي تقضي عليه أغلبَ وقتِها عليه وهي تنظرُ للآخرينَ من البابِ الذي يقابلُ السريرَ تمامًا، وعلى الأرضِ تضعُ طبَّاخةً خضراءَ اللونِ وبجوارِها جالونٌ من البلاستيك به (الكيروسين) لملءِ حوضِ الطبَّاخةِ عندَ الحاجة، الجدةُ (حليمة) عندها عادةٌ رائعةٌ فهي لاتتركُ زائرَها دون أن تُخرجَ زجاجةَ عطرٍ قديمةٍ اعتادتْ على تكرارِ شرائها كلما نفِدتَ ثم تقومُ برشِّ الزائرِ حتى تبتلَّ ملابسُه، وتعتذرُ عن قلِّةِ الرشِّ وتستمر فيه، أتحاشى إحراجَها بالمرورِ خاصةً وقت مقيلها وهو الوقتُ الذي يبدو مساعدًا لي لزيارتها، ذاتَ يومٍ قررتُ أن أزورَها، اشتريتُ معي عطرًا من الذي تفضِّلُه وجرَّبتُه على جانبيَّ وعلى غطاءِ رأسي، أقبلتُ نحوَها وإذا هي تضعُ جزءًا من ذراعِها وكفها الأيمن فوق عينيْها لترى أكثر، عرفتْني فنادتْني بصوتِها الرخيم…. ضحكتُ واقتربتُ من رأسِها أقبِّله فأمسكتْ بي بعنف، قالت بلهجةِ العجائز : لقد تعطرتَ من عطري… أتظنُّ أنه لايبقى منه شيئ عندي؟ أخرجتُ التي معي وقدمتُها لها، أمسكتْ بظاهر كفي اليمنى تُقبّلها، نظرتُ إلى أعلى وهي تنظرُ معي، عاجلتْني بِرَدٍّ وإصبعها على أذنِها: لقد وضعتُ الراديو بجانبي وعلقتُ صحنًا صغيرًا مكانَه ليتحركَ مع الهواء، لم أعدْ أسمع القرآنَ والأحاديثَ والأخبارَ بشكلٍ جيد، نصحتُها بأن تضعَ مسمارًا قريبًا منها تعلقه عليه ، دعتْني لفعلِ ذلك ووعدتُها في الزيارةِ القادمة، قامتْ تتوكأُ نحوَ الطبَّاخة، منعتُها فأقسمتْ إلا أن تُسخِّنَ القهوةَ التي لم تحتسِ منها إلا القليل، جلستُ إلى جوارِها وهي تسألني عن كلِّ شيء، وأنا مَرَّةً أجيبُ بفمي ومَرَّةً أهزُّ لها رأسي حتى لا أُثقل عليها بالكلام، نهضتُ لأغادرَ غرفتَها التي تتضوَّعُ رائحةَ عُمْرٍ طويل، أخرجتْ من صندوقِها الخشبيِّ زجاجةَ العطرِ وأنا أعتذرُ منها، قالت: عطري من النوعِ الأصلي وعطرك من التقليدِ وهي تضحك، لم أدمْ طويلًا في الغياب عنها، جاءني إحساسٌ غريبٌ لزيارتها، تذكرتُ وَعدي لها بوضعِ مسمارٍ يعلو رأسَها لتعلِّقَ عليه المذياع، عندما اقتربتُ من غرفتِها كان الصَّمتُ يلفُّ المكان، لم أَسمعْ صوتَ الأخبارِ من غرفتِها، وجدتُها مغمضةَ العينينِ فلم تطاوعْني النفسُ على تحريكِها وقَد غطَّتْ وَجهَها بخمارِها الأسود ، حركتُ يدَها فلم تستجب، ألقيتُ المسمارَ على الأرضِ فاصطدمَ بالطبَّاخةِ ولم تتحرك ، طبعتُ على رأسِها قبلةً أخيرة، بقيتْ زجاجةُ عطرِها مختبئةً في الصندوق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى