مقالات مجد الوطن

بذرتان

 

محمد الرياني

… ويمرُّ العُمر ياليلى، وتيْبسُ على مجرى المياه الزهور ، صادفتُها بعدَ مُضيِّ العمرِ عند المَشيب، كانتْ تحفرُ في الترابِ حولَ الساقيةِ عن أشياءَ لم تُفصحْ عنها، لم تجبْ عن سؤالي الذي ضاعت تفاصيلُه في منعطفاتِ السنين، كانت أنفاسها تضطردُ كمن يبحثُ عن عزيزٍ مفقود، أشارتْ إليَّ بيدها التي تُشبهُ الوردةَ الحمراءَ الذابلةَ وقد مالتْ إلى الاصفرارِ بأن أنتظرَ حتى تجدَ الضائعةَ التي تبحثُ عنها، استمرتْ تحفرُ بثقةٍ وكأنها تريدُ أن تُخرجَ الماءَ القديمَ من جوفِ التراب، عجِزتْ وهي تحفرُ وأنا أتعجَّبُ من فعلها، قلتُ لها : ليلى القديمةُ دفنتْ أنفاسَها بين الترابِ مع حاجتِها المفقودة، جلستْ لتستريحَ وهي تقول: صدقتَ ، أتذكرُ كيف كنتُ أقفزُ من على الماءِ دون أن يغرقَ باطنُ قدمي؟ بينما تتعثرُ خطواتُكَ لتقعَ في الجدولِ القريب ، قلتُ لها : كنتُ أتعثرُ لأَمُدَّ يديَ كي تصافحَ يدكِ ولتسحبيني نحوَ الرابية، نهضتْ وحولها المجرى الذي طالَ به العمرُ ليصيرَ وَجهًا كالحًا متجعدًا مثلَ وجهيْنا، طلبتُ منها أن أكملَ حفرَ الترابِ فامتنعتْ بإباءٍ وتراجعتْ للخلفِ خوفًا، قالت لن تَمسَّ شيئًا دفنتُه بيدي، غادرتْ وكلُّ شَيءٍ يابسٌ في البستانِ القديم؛ أشجارُ الأثلِ التي كنَّا نتسلقُ على جذوعِها وفروعِها لنزاحمَ العصافيرَ على أعشاشِها، وأصولُ قَصَبِ الذرةِ التي بدتْ كالأنيابِ المتوحشةِ من جَدبِ السنين، والأرضُ التي افتقدتْ أقدامَ اثنينِ صغيرينِ كانا يلهوانِ بحبَّاتِ الحنظلِ الصغيرةِ ويتقاذفانها ، أكملتُ الحفرَ المجنونَ بعدما تأكدتُ من غيابها ، لم أجد بين الثَّرى غيرَ بذرتين يابستين كلُّ واحدةٍ في قطعةٍ من ثوبِها الأحمر، هلَّتْ دموعي فدفنتُ البذرتينِ من جديد ، لم تكنْ تريدُ أن تفصحَ عن سرِّ لُقيانا بعد هذا العمر ، وُئدَ الحُبُّ كما البذرتين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى