مقالات مجد الوطن

نِداء

 

محمد الرياني

قطعَ الشارعَ المكتظَّ بالعابرين وهو يريدُ مواقفَ السيَّاراتِ التي تتزاحمُ حولها مبانٍ متشابهة، يبدو أن ساكني الحيِّ ينتمون إلى جهةِ عملٍ واحدة ، لا يعرفُ كيف فاتَه أنه زارَ هذا المكانَ صغيرًا قبلَ أن تتحولَ المباني إلى حيٍّ يشبهُ الخراباتِ بسببِ تقادمِ البناءِ والإهمال، وقفَ واضعًا يده فوقَ رأسِه من حرارةِ الشمسِ وهو ينتظرُ قائدَ سيارةٍ يتراجعُ ببطءٍ وكأنه حديثُ عهدٍ بقيادةِ السيارات، قال له مازحًا والأوراقُ التي بيدِه تكاد تغرقُ من العرق: هل تودُّ الحصولَ على مساعدة؟ شكرَه وهو يشيرُ إلى ضعفٍ في إبصاره، ظلَّ يراقبُه حتى تجاوزَ بعضَ الصبَّاتِ الإسمنتيةِ وهو خائفٌ عليه أن يصطدمَ بها، لكنه كان حذرًا، السائقون هنا يبدو عليهم كِبرُ السنِّ والارتباكِ والحذرِ الشديدِ أسوةً بالمباني المتهالكةِ وقلةِ الاهتمام ، اخترقَ تفكيرَه هذا صوتُ نداءٍ أو استغاثة ، حرَّكَ رأسَه بحثًا عن مصدرِ الصوت ، نادتْ عليه بصوتٍ مرتفع : هنا هنا، وهتفتْ له بيدها ليصعد، استغربَ من سيدةٍ يظهرُ من صوتِها الوقارُ والاحتشامُ وهي تستحثُه على الصعود ، يوجدُ على الدَّرَجِ الذي يتجهُ نحوَها بعضُ الكراتينِ الفارغةِ والتواريخِ التي على تدلُّ على قِدَمِ السكن ، وجدَها تجلسُ على نهايةِ الدرجِ والغبارُ يكادُ يغطي كلَّ شيءٍ ويبدو أن شقتها قريبةٌ من الدرج ، تفاعلتِ الحساسيةُ التي تصيبُ أنفَه مع الحرِّ وأحسَّ بالضجرِ جراءَ السيلانِ من أنفه ، كانت قدماها تتدليان على الدَّرَجةِ قبلَ الأخيرةِ وهي تضعُ يدَها على خدِّها تنتظر ، برميلُ النفاياتِ الذي كان بجوارها تفوحُ منه روائحُ ومخلفاتٌ كريهةٌ بينما هناك قِطَّانِ أسودانِ ينهشانِ بشراهةٍ من الفضلاتِ التي خرجتْ من البرميلِ بعد امتلائه ، السترةُ التي عليه تشبهُ ستراتِ عاملي النظافة، اقتربَ منها وقد تغيَّرَ وجهُها، رأتْه عن قربٍ نظيفًا مرتبًا وأنيقًا وبعضُ العطرِ يفوح منه، عرفَ من لغةِ عينيها أنها أخطأتُ الاختيارَ بعد أن ظنته عاملًا تريدُ التخلصَ من البرميلِ الذي ضايقَها برائحتِه، ردَّ عليها : لابأسَ خالتي العزيزة، مدَّ يدَه لتناولِ البرميلِ فأقسمتْ بالرفضِ قائلة : لقد اعتدتُ على تأخرهم على الرغمِ من تكرارِ تنبيهي لهم، عمومًا كأني أخرتكَ عن موعدك، هزَّ رأسَه بأنه لاتوجدُ مشكلة، في هذه الأثناء مرَّ عاملُ النظافةِ بسرعةٍ خاطفةٍ فلحقَ به وأمسكَ بيده نحوَ الطابقُ العلوي الثالث، حرَّكَ العاملُ رأسَه على طريقته محتجًا بأنه ليس مسؤولًا عن الصعودِ لبراميلِ السكان ، أخرجَ من يده ورقةً نقديةً بسيطةً ووضعَها في جيبه، فرحَ العاملُ بها وحملَ البرميلَ نحوَ الحاويةِ التي تنتظره وعيناه تذرفان، استغربَ الشابُّ دمعةَ العاملِ وسطَ السلمِ النازل ، قال بلهجةٍ غيرِ واضحة: إنها أولُ مرةٍ وقد تكونُ الأخيرةَ التي يساعدُه فيها أحد، لفتتْ نظرَه كلمةُ الأخيرة، أغلقتِ السيدةُ صاحبةُ البرميلَ البابَ على نفسها ، سمعَ صوتَ البابِ المنغلقِ بقوةٍ دونَ قصدٍ منها فيما يبدو، اكتملَ أسبوعٌ على موعدِ الأوراقِ التي معه ليعودَ بها، أرادَ أن يقطعَ الشارعَ فلم يستطعِ المرورَ من كميةِ الأخشابِ والصباتِ الإسمنتيةِ والحديدِ التي تغلقُ الطريق، عبرَ بعد ذلك بصعوبةٍ ولم تسلمْ رجلُه من المساميرِ التي تسكنُ الأخشابَ القديمة، أراد أن يطمئنَ على صاحبةِ البرميل، تفاجأ أنَّ العمارةَ التي تسكنُها وما جاورَها قد تساوتْ مع الأرض، لم يجدْ للسيدةِ أثرًا، وجدَ البرميلَ مقلوبًا يحيطُ به الركامُ وفوهته على الأرض، بدت المواقفُ فارغةً تمامًا، بينما عاملُ النظافةِ يجمعُ بعضَ مخلفاتِ البناءِ الخفيفة بدلًا عن جمعِ القمامة، سأله عن السيدةِ فلم يجبه، انتظرَ من الشابِّ ليعطيَه عملةً نقديةً كما فعلَ في المرةِ السابقةِ فلم يحدث هذا وتركَ العاملَ بين الأنقاضِ ببحث عن رزقه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى