مقالات مجد الوطن

19 روايتي: شرارة وبناتها حرائق!!

 

أيوب أحدودب ظهره وكثرة تجاعيد وجهه من أجلكم، زاد عمرًا على عمره، صحب معه سنوات مضاعفة اثبتت خبرته وصرفته عن سبل المتعة والترفيه حتى كبت داخله الحب والفرح، وعندما حاول إخراج شيء منها لفظته الحياة كشيء مقزز، فما كان منه إلا أن لملم جثته النتنة كما شعرت هي بها، ودار بطلته البهية التي لم تبصرها عنها وفعل كما فعلت قذفها عجوزًا شمطاء ترفل في لباس فتي وتتأجج في عز الصبا، وحين جذبها الماء سقطت فلعنته حفرتها”.
عصر كلام (المتوهم) رأس (المنصدم)، فأخرج كبريته وسيجارته المحفوظة كوديعة بين طيات فوطته، أشعل لفافته المعتادة، ثم شفط عدة شفطات متتالية فكر كثيرًا وسريعًا، بغضه ل(أيوب) نشيط داخله حتى أصبح لديه فرط حركة لا يستجيب لأوامر التحذير.
رفس الارض واستسلم للانفعال، ومن ثمَّ تشابك مع (المتوهم) باحتجاج واهتياج ويداه لا تكف عن العلو والهبوط وهو يمشي على غير هدى بينهم:
– أيوب.. أيوب.. أيوب.. أيوب من هذا أيوب الذي تفاخر به بيننا؟ مجرد غريب لا نعرف عن أصله وفصله مثقال ذرة.. مثقال ذرة واحدة عنه لا نعرفها، وأنت الوحيد الذي يعرف خباياه؛ لهذا أنت تسانده وتدافع عنه.. أن هيئته هيئة مجرمًا فارًا جعلته يحيا هنا وتسترت عليه.
رد عليه (المتوهم):
– أيوب ليس مجرمًا، ولم يرحل هذا الرجل عن بلدته هربًا من الثأر الذي طالما أُتهم به ولا من أجل البحث عن المال بل ولى هاربًا من أهوال لا تسرد بالكلمات.
أضطر أن يجازف بحياته وكان نصيبه وقدرنا أن يعيش بيننا. هرب من أجل حياة للحياة لا يتم فيها وصاية عليه بأي شكلًا كان. بدأت حياته الجديدة من هذه البقعة، انطلق من هذا المكان الذي كانت الأكواخ الخشبية تغطيه، كان أول من فكر ودبر في تطويرها، لم يأبه بأحد وحمل كيسًا تلو كيس من الإسمنت على ظهره، و
تمتم (المنصدم) متهكمًا:
– حقا.. و.. وماذا بعد؟ لم يبق سوى أن تقل إنه كان يخلط الماء والحصى والأسمنت كخلاطة الخرسانة.
فليكن دومًا في حسبانك إنه لم يكن الوحيد الذي عمل وكافح، فجميعنا قدم ما قدمه بل نحن قدمنا أكثر منه، لكن أنت أعمى لا تمعن رؤية الحقائق ولا تجيد قياس الأمور ومقارنتها.
ومن بين الجمع الغفير نبع (الحكيم) وهو يتكئ على عصاه، مشى ورائحة الدخان تمسكه إلى أن بلغ (المنصدم) الذي كانت صلعته تومض أمامه كنجمة صغيرة تتلألأ في الظلام، ثم انحنى بانحنائه المنحني الذي بلغ بوصات قليلة من البسيطة، جلس عليها، ووجه حديثه إليه:
– لقد علمتني الحياة أن أسبر أغوار الناس وأصبحت بارعًا فيها، ولاحظت أن غيري مما لا يتقنون ذلك سريعين الحكم وينحازون لأهوائهم؛ لهذا حتى لو كانت رؤية (المتوهم) للأشياء مختلفة عن رؤيتنا هذا لا يعني اننا دوما على حق، فما نضح به صحي وسليم، بالفعل نحن لا نقو على التعايش في هذا الوضع ولا حتى التعايش على وضع بيوتنا السابقة الاكواخ.. أتذكرها؟ التي كانت مبنية من الخشب والقش وسعف النخيل وأوراق الشجر و
قاطعه (المنصدم) مستكبرًا:
– وبتصميمات المهندس أيوب بنى لنا مكانها قصورًا فارهة.
رد عليه (الحكيم) بفم أوشك لسانه على الجفاف:
– كل ما قلته صحيح؛ لهذا كلما ثنى عليه احد انتقصت منه وقللت من شأنه وهزأت به، وبدلًا من كل هذا ما رأيك أن تطلعنا على ما صنعته من أجل قريتك وأهلها؟ لا شيء.. ليس لديك انجازًا واحدًا تقوله حتى تسد به أفواهنا عنك.
كل ما لديك هو شعور يؤلمك وتشكو منه من خلال إفساد أعمال أيوب وتشويهها في أعيننا، ولو كان في مقدورك لفصلته عنا منذ أمد طويل، أيوب لم يكن مهندسًا فقط بل كان مستشارًا حكيمًا شئت أم أبيت.
شعر (المنصدم) بظمأ (الحكيم) وانه كالسمكة خارج الماء، ناوله قنينة ماء من كيسه الذي لا يغادر ظهره، وغمغم: “لولاي يا عجوز لفطست”.
هم (المتوهم) بالدافع عن (أيوب)، لكن (المنصدم) عاجله كقطار سريع يقطع كل من يحاول قطع رفيقة دربه سكة الحديد:
– عاد المحامي من جديد، أزف لك البشرى يا أستاذ لا حاجة لمرافعتك؛ لأن القاضي حكم والقضية حسمت والجلسة انتهت.
سأله (المتوهم):
– ما هي مشكلتك التي تعاني منها ونحن في هذا الوضع الصعيب؟
– الكلام التافهة الذي لا ينتهي.. وتسأل بعين قوية ما هي مشكلتك؟
ما هي مشكلتي أنا أم ما هي مشكلة صديقك (أيوب)؟ هيا أخبرنا بها، فبحكم علاقتك الوطيدة به أصبحت مستودع أسراره.. فأنت على علم بكل ما دار معه، هيا أفصح لنا ما هي الكارثة التي رمته علينا وتشوب حياته الشخصية؟
ضرب الشيخ (الحكيم) التربة بعصاه ضربة مبرحة حتى تناثر رذاذ طيني طفيف فيه بعض المواد المحترقة المختلطة بماء الإطفاء، وأجاب على (المنصدم):
– أنا من سيخبرك يا أيها التعيس وسيخبر الجميع بقصته كاملة، وغدًا سيكون موعدنا في سيقفة الاجتماع.
صفق أحد المطروحين بيده وقال:
– لكن يا (الحكيم) كيف نجتمع والمدينة أصبحت خراب!؟
– خلاصة القول سيكون موعدنا بعد صلاحها، انهضوا وانظروا في حال دياركم.. تفاءلوا لعلها تكون على ما يرام.
انصاع الأهالي لتوجيه الحكيم وكسروا سلاسل الانكسار التي كبلتهم وأدمت أفئدتهم، ثم فسخوا أردية الأوهام التي التفت حول أنفسهم كالأكفان.
الروح/ صفية باسودان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى