مقالات مجد الوطن

٢٠ روايتي: شرارة وبناتها حرائق!!

 

أفاق (أيوب) شبه إفاقة بعد العملية الجراحية الطارئة التي أجريت له، ومكث في غرفة الانتعاش لمراقبته وتوفير الرعاية له وعقب ساعتين من زوال التخدير عنه بدأ يتجرع أقداح الآلام المشتدة والممزوجة بألم الفقد، الفقد الذي غرس مخالبه الحادة والطويلة في صدر قلبه ناحتًا تذكارًا عليه ليمجد عبره الحرمان، طلاءه بماء دمعه ودمه وبعدما جف دهانه جثم عليه بكل جبروته وبمكر جميع الماكرين أوهمه إنه لا يحس ولم يعد يشعر.
تأوه (أيوب) من الوجع والحنين، تحسر على مشاعره وكتم انينه خشية أن ينصت له مارًا فينعته بالرجل الضعيف.
ضمره حتى وقف قلبه عن النبضات، أعيق الجهاز الموصل بجسمه، فصدر صفيرًا تنبيهًا، فجع الطبيب وطاقمه حين سماعه، أسرعوا إليه، وضع الدكتور أقطابًا على صدره وأرسل من خلالها صدمات كهربائية سريعة ومنخفضة الطاقة متوالية إلى أن أعاد له تنظيم ضربات قلبه المحروم الحزين.
أكد الطبيب وأعلنها لفريقه بصراحة لكي يجدي العلاج معه وللحفاظ على حياته وضمان سلامته.. شددوا على مراقبته وامنعوا عنه الزيات حتى تستقر حالته الصحية وفي المقابل سمحت له بالمسكنات والمهدئات لتخفيف أي ألم يشعر به.
هجد (أيوب) وارتاحت نفسيته، فلم تتناهى تأوهاته إلى مسامعهم، لقد كانت سجينة ذاته التي كانت هي الأخرى حبيسة الجدران. أما فؤاده فقد ظل يكمل شرابه في كابوس مفزع له؛ ليتذكر ما يجب عليه نسيانه!

في مساء يوم الأحد، دس الليل في طيات عباءته المزركشة أحداث النهر الماضية وعيوبها حيث حلت تلك المرأة النائية في كبد السماء آنفًا ضيفة على أرض جرداء مهجورة تجمع بين بلدتين البلدة الفارة منها وتدعى “جاف” والبلدة التي دمرتها في ليلة الجمعة وتسمى “زان”.
لقد حظي هذا الموقع بالاستراتيجية التي مكنتها أن ترى القليل من قمم الأبنية الآيلة للسقوط القريبة منها، وجعلها مثل القناة النهرية كل من سيرد عليها سيبتغي منها شربة ماء.
وبعدما رحلت سبب شر أمس الأمس تاركة خلفها ضرره، قرعت طبول العمل، في نهار هذا اليوم من بداية شهر ذي القعدة، في نحو الساعة الخامسة والنصف، أثناء الشروق شمروا الرجال عن سواعدهم وكان أغلبهم متعبين مرهقين طبعًا، قد أثقل النعاس أجفانهم وغلبها، بينما هناك من اعتلت أرجلهم القوية هضبات الأبنية المتراكمة من زوبعة أهدت لهم اليأس والخيبات، باتت وأمست حديث الأهالي، قال أحدهم وهو شاب طويل القامة، أملس الشعر، بني تقريبًا، قد يكون في التاسعة والثلاثين من العمر، عيناه عسليتان، واسعتان، وأنفه أشم، وجنتاه
بارزتان، وعلى شفتيه الرقيقتين ارتسم الغضب:
– غريب ما حدث لأول مرة يحصل لمدينتنا الجميلة الهادئة مثل هذه التغييرات الكبيرة التي ليست من جغرافيتها.
أيده الثاني وكان شبيهًا له للدرجة التي يقال عنهما إنهما “تؤام” وأضاف إليه:
– انها تغيرات ناقمة علينا!
وبحسرة قال ثالث وقد تراءت أمامه صور الماضي، وهو شاب قصير القامة، أجعد الشعر، أسود، في السابعة والثلاثين من العمر، عيناه سوداويتين، صغيرتين، وأنفه افطس، وجنتاه مسطحتان، وعلى شفتيه الغليظتين ارتسم البؤس:
– لقد ذكرتني بالمشاق التي كابدناها من أجل تحضرها وتطوير ماضيها “الجفرطب”
شاركه بقوله في متابعة الصور الذهنية رابعًا متلثمًا لا يظهر من وجه إلا عيناه الجميلتين:
– وكيف اهتمينا بها وأحطناها بالأشجار الضخمة كي تخفف عنا حرارة الأجواء وتلطفها.
حزم (الحكيم) ما سقط منهم من عبارات، وأشار عليهم:
– لن يفدنا كثرة الندب هموا بالاجتهاد الدؤوب لإعادتها أفضل وأجمل مما كانت عليه.
ثم توجهت أنظارهم إلى بعضهم البعض، الوجوه مكفهرة وكئيبة – كان وقع كلمات (الحكيم) عليهم مدويًا داخليًا – سبب لهم دفعة محفزة على الإقدام، ففاضت أعينهم اشتعالًا واتقادًا، قدم أحدهم فكرة والذي كان دارسًا لعلم النفس كمقترح لحل المشكلة وتخطي الحيرة التي وقعوا فيها:
– ما رأيكم يا شباب أن نبدأ في ردم الشقوق والتصدعات للبيوت المتضررة أضرار بسيطة قبل أن تتفاقم ونقل فيها النساء والأطفال ثم نركز جهدنا على المصيبات العظام وننسى أمر هذه الريح الخرقاء؟
اقتنعوا بفكرته، رجحوا رأيه ووافقوا عليه في الحال الذي مثله أحدهم بقوله:
– هيا بنا نبدأ، فإنجاز الأعمال الكبيرة يتم بهد تقسيمها إلى وحدات صغيرة منظمة.

الروح/ صفية باسودان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى