مقالات مجد الوطن

٢٢ روايتي: شرارة وبناتها حرائق!!

 

وفي ذات الوقت الذي غادر فيه (المتوهم والمنصدم) البلدة مر بعض العمال الغرباء الذين أبرم مجموعة من أهالي مدينة (زان) عقد مع شركتهم وهم ما بين حمل ودفع وقيادة لمعداتهم الثقيلة بتلك المرأة ومسكنها الذي كان أقل ما لا يقال عنه إنه متواضع، وأعينهم تتبعها حتى استنفرت فيهم كل معاني الإنسانية ليساعدوها وينتشلوها مما هي فيه، خيل لهم كيف ستبلى وتنخر عظامها أن هم تركوها على هذا النحو، ستفتت من كثرة الحفر وستتوحد مع حبيبات التراب المفككة مكونة معها طبقة هشة تغطي السطح وحينها لن تعد بحاجة إلى قبر أو كفن.
صورة هلاكها تعرض عليهم كقشرة في مقطع تحول هائل لها من الحجم الصغير، لم يفكروا أكثر بعد أن اكتفوا بالمشاهدة عرضوا عليها المساعدة، أطرقت برأسها علامة على الموافقة وسمحت لهم بفحص أرضها الفسيحة وقياس مساحتها والاحتفاظ بما دونوه عنها، وقد تم هذا بعدما تحركت فيهم مشاعر الشفقة والرحمة بشأنها البأس المحزن وقرروا بناء غرفة بمنافعها لها.

وقبل أن يصل (المتوهم والمنصدم) إلى (أيوب) كان هو يعيش في لحظة تذكارية.
بعد أن استقرت حالته وتم نقله من وحدة العناية المركزة إلى غرفة عادية استرجع استرجع ما لا كان يحبذه مثل الذهاب إلى المستشفيات إلا في الحالات القصوى التي تستدعي اللجوء إليها. تذكر إنه لم يذهب إلى هذه المشفى إلا مرة واحدة في فترة نزوحه عندما زأر الطبيب لإجراء بعض الفحوصات لبطنه المتقطع من شدة الالام المبرحة، قضى حوالي ثلاث ساعات فيها حتى ظهرت نتائج التحاليل والاشعاعات التي أكدت انه سليم معافى ولا يوجد لديه مرض معوي يعاني منه، ولصعوبة ما كان عليه من وجع وتقلصات مرة يعتصر ومرة أخرى يشعر بسكين حاد يقطع جوفه ويداه تضعط على موضعه بقوة ولا تبرحانه، يزداد مغصه فيقابله بنكرانه، شهدت الممرضة ذلك، انتظرت حتى انتهى من الكشف وتفضلت عليه بحبتي مسكن ثم انصرفت.
عادت بعد أن هدأ قليلًا ومن ثم طلبت منه هويته أو أي ورقة إثبات كي يعرف بها عن نفسه، تصنع لبرهة إنه يبحث عنها في جيبه، ثم تأسف لها بالنسيان. عزم من بعد هذه الزيارة أن الا يكررها، ومنع نفسه من مثلها، وخضعها للأعشاب كعلاج بديل، استمر حتى أخرج ما في بطنه وتغلب على ما كان يشكو منه من المغص المزمن.
لكن الاقدار كان لها رأيًا اخر في هذا القرار وأبت أن يتم عزمه، وفرضت عليه أن تكون له زيارة ثانية، وهذه الزيارة أكدت له الغربة التي كان يعيشها في هذه البلدة، والمدى الفسيح الذي كان بينه وبين البعض إلا أن هناك نقطة مركزية تعيدهم كي يلتفوا حوله، فقد اعتادوا فيها أن يغيظوه ويعلقوا عليه بشكل قاسٍ وهم يدركون ذلك، والسبب عدم معرفتهم لسره الدفين.
وبدون إنذار مسبق تلاشت لحظته التذكارية كأنها لم تكن حالما شعر بخطوات أقدام تقترب منه، لقد كانت وقع أقدام المنصدم والمتوهم وخلفهما زين في غرفته رقم (٥)، أزاح (المنصدم) الستارة البيضاء التي كانت تفصل بين (أيوب) ومريض آخر، وقف بجوار سريره وراح يتأمله وهو متدثرًا بغطاء خفيف واسع ذو لون أبيض، مبسمه كالمعتاد باسم مشرق، والقناع الفموي الشفاف بجواره يتوسد وسادته، وعند حافة السرير الأخرى أسطوانة الأكسجين مرافقته ورفيقته في رحلته العلاجية، أدار (المنصدم) بجسمه ناحية (المتوهم) وبدأ يحدثه مبتسمًا، تلك الابتسامة الوقحة نفسها التي عبرت عما بداخله من قساوة القلب وتكبر فظ أمام مصيبة أيوب، وقال له:
– هيا.. هيا بنا نعود.. ألم أقل لك سنجده نائمًا كالميت ولن يحس بزيارة أحدًا له؟
وبدون قصد وضع (المتوهم) يده على كتف أيوب الأيمن أدرج من خلالها صورة تذكارية جمعتهما في أول لقاء لهما وبعينين رقراقة أجاب على (المنصدم) هامسًا:
– المسكين لا شك أنه حاول أكثر من مرة أن ينام ونام من بعد سهد وأرق، هاهو مغلقًا عينيه لئلا يرى خياطة (غرز) جرحه، لعله يحس ببعض الألم الحاد أو الألم الذي لا حدة فيه، والذي سبقته نغزه وحكة خفيفة أعلى خاصرته، و
– ودعه يرقد بسلام، وإن لم تسرع وتلحق بي فالبرد هنا سيجمدك فقد بلغ مبلغه من الشدة، وسيجعلك مريضًا تحس بالألم الذي تحدثت عنه للتو دون نغزات وحكات.
– لكن! من المحتمل أن يحضر الطبيب الآن كي يمر على المرضى فنسأله عن حالته.
– بربك ما هي حالته؟ ألا ترى أم اليوم أصبحت أعمى بعد أن كنت بصيرا.
تنهد (المتوهم):
– أن أسوء يمكن أن يحدث للشخص أن من يرافقه هو الذي يعانده ولا يفهمه.
– لا.. بل الذي يسمع عنه ولا يسمع منه؛ لهذا أنا سأذهب، فهل ستمضي معي أم إنك ستبقى؟
تظاهر (أيوب) أنه لم يسمع تحاورهما، “آه، يا إلهي” قال في نفسه، “أي حياة متعبة قد اخترت!”.
الروح/ صفية باسودان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى