مقالات مجد الوطن

*حينما خطرت في الفستان الأبيض*

ــــــــــــــــــ

خطرت هادئة وادعة، كما كانت دائما، لم تُرهبها حداثة التجربة، ولم تُخفها كثافة الحاضرين، ولم تهب المكان، ولم تخشَ الزمان، ولم تربك خطواتِها نظراتُ الناس.

حينما برزت أمامنا، وذلك الشاب متأبطٌ ذراعها، وهما يتهاديان أمام الناس، استدعيت شريطا عريضا من الذكريات.

لقد شبت عن الطوق، واستقام عودها، واستطال قوامها، والآن ترتدي ذلك الزي الأبيض الذي يجعلها تقف على برزخ بين حياتين.

لقد وُلِدَتْ على يديَّ، حينما كنا في مكان غير ذي زرع، وليس معنا أحد، هرعتُ أستجدي السابلة؛ ليبحثوا لنا عن قابلة؛ لتكمل عملية الولادة التي بدأت بالفعل أمام ناظريَّ، وأنا أقف مشدوها عاجزا، لا أدري ما أفعل!

عرفتِ الحياة يوم عرفة، إذ وُلِدت فيه، لكنها ما عرفتْنا؛ لأنها كانت هزيلة نحيلة صغيرة، وكانت أمها أشد تعبا منها.
كانت أمها فاقدة الوعي، فخشيتُ على الطفلة، فأنمتُها عندي، في تجربة صعبة عليّ، فقد كنت شابا حديث عهد بزواج وبأبُوَّة، فرقدتْ في جواري ونامت نوما قلِقًا، أما أنا فلم أنم؛ لأني خشيت أن أتقلب عليها.

كانت صرختها حين الولادة مقتضبة هادئة، كما عاشت بالهدوء ذاته طوال حياتها، لا تحس بها، ولا تسمع لها ركزا.
كنت أحملها ضحى؛ لأجل أن تتسرب أشعة الشمس الدافئة لمسام جسدها النحيل، فأجلس بها ما شاء الله لي؛ حتى تستدفئ، وتنتعش، ثم أعود.

حينما قال لي المأذون: ردّد خلفي، فرددت، وحينما وصلت لاسمها خنقتني العبرة؛ لأني أحملها لرجل آخر طوعا، كانت حبالي الصوتية تتأرجح في حلقي جيئة وذهابا، وصوتي لا يكاد يبين، فقد أنكرت صداه.

نهضتُ من أمام المأذون، فتلقيتُ التهاني، وعيناي مغرورقتان بدموع حرَّى، وحلقي يغصُّ بعبرات، نتاج مزيج من اختلاط المشاعر ما بين فرح وحزن وقلق …أو ربما من صعوبة استيعاب الموقف.

عندما خطرتْ أمامنا، ثابتة الوقع، راسية المشية، منتصبة القامة، تماوجت بداخلي مشاعر لا أكاد أبينها، وثمة أحاسيس متناقضة داهمتْني، لا أميزها؛ فصرت أفرك عينيَّ، وأقرص جلدي، وأضرب صدري؛ لأتاكد أني في يقظة، ولأوقن أن ما مر أمامي حقيقة لا خلاف عليها.

دخلتِ المدرسة، وكانت صغيرة الحجم والعمر، لا تكاد تثبت على مقعد؛ مما أدى بمعلمتها أن تكتب لها في الشهادة ملحوظة مفادها أن التلميذة كثيرة الحركة.
لكنها كانت نابهة نابغة ذكية أبية، محبة لوالديها، مكرمة أختها، مُجِلَّةً أخويها، لطيفة رقيقة، مرتبة الكلام، منغمة الحديث، مموسقة الحركة، إيجابية في طرحها، تنقل المبشرات، وتمنع عنا غيرها.

مضت بتلك الصفات في جميع مراحلها الدراسية، وكانت مصدر فخري ومنبع سعادتي، ومنهل فرحتي؛ إذ كانت تتصدر زميلاتها دائما، ولا تفرط في المركز الأول، حينما تعلن المدرسة انتهاء مارثون الاختبارات، فكانت تصل في المقدمة، وتترك الباقيات وراءها.

عانت فترة من آلام ممضَّة تتجدد عند صعود الدرج، وعند النهوض من الأرض، ولم نكن نعلم السبب، إلى أن عرفنا أن ذلك بسبب التهاب اللوزتين، فقررنا إجراء عملية استئصال للوزتين، مكثتْ مليًّا في غرفة العمليات، فكانت تلك أصعب لحظات انتظار مرت بي في حياتي، وحينما خرجت مدفوعة على سريرها، وهي مازالت غائبة عن الوعي بتأثير المخدر انهمرت مني دمعات، استقرت بين عينيها، وأنا أقبِّلها.

ثم غادرتْنا إلى الوطن لاستكمال دراستها، لكنها لم تغادر تفوقها وأدبها، ولم تتأثر ببُعد والديها عنها، فلم تتضعضع لها عزيمة، ولم تلن لها قناة، فواصلت في سبيل التفوق.

حينما خطرت أمامي بذلك الزي الأبيض تذكرت زيًّا أبيض آخر، سعِدتُ جدا عندما ارتدتْه، وذلك عند دخولها كلية الطب.
مضت بالثبات ذاته، وبالعزم نفسه في مراحل الكلية كلها، إلى أن أتمتها بتفوق، فهطلت علينا سحائب فرح، انتظمت حياتنا.

هاهي الآن في زيها الأبيض، وأنا أتعجب من مر الغداة وكر العشي، حينما مرت تلك النسمة الرقيقة منذ عرفناها في يوم عرفة، وحملتُها بيديَّ، لترتدي ذلك الزي الأبيض في جمادى الآخرة؛ ليتأبطها رجل آخر، فسبحان من نقلها بين هذا وذاك.

ليس أمامي ما أقوله سوى أنها سنة الله، ولستُ ممن يرغب عنها، ولهما مني الدعوات الصادقات بأن يبارك لهما وعليهما ويعينهما على أن يكوِّنا أسرة مسلمة، تُعلي راية الوطن، وترفع شأن الدين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*طارق يسن الطاهر* tyaa67@gmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى