مقالات مجد الوطن

القيم النبيلة؛ حيث لا مساومة فيها

ـــــــــــــــــــ
بدءًا أسعى لتعريف القيم لغة واصطلاحا؛ حتى أمضي -بعد ذلك- في التوصيف الصحيح؛ مستلهِمًا المعاني المتضمَّنة في ذلك المصطلح.
مما ورد في معنى القيم لغة: قيمة الشيء: قدْرُه، ويقال: ما لفلان قيمة، أي ماله ثبات ودوام في الأمر” المعجم الوسيط ص768 ط4.

أما اصطلاحا، فقد تعددت التعريفات، لكنها كلها تحمل فكرة واحدة، وأوضحها وأدقها أنها: (صفات ومعاني قد تكون فكرية أو سلوكية، وهي ذاتية وثابتة ومطلقة، لا تتغير باختلاف مَن يصدر الحكم عليها) ” مجلة البحوث الإسلامية، مجموعة مؤلفين، صفحة 271.

ومن المعلوم أنَّ المعنى اللغوي هو الأصل الذي تتطور منه دلالات المصطلح، ولو لاحظنا للمعنيين اللغوي والاصطلاحي نجد التشابه بينهما؛ حيث ركَّزا على أنَّ القيمة هي الشيء الذي يتمتع بالثبات والدوام.

من هنا ننطلق؛ مصطحبين معنا عبارة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حين قال في خطاب رسمي خلال زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى المملكة مؤخراً بحضور عدد من زعماء المنطقة، ما نصه (…قيمنا النبيلة، التي نفتخر بها ولن نتخلى عنها ونتمنى من العالم احترامها كما نحترم القيم الأخرى بما يعزز شراكاتنا ويخدم منطقتنا والعالم.)

هي عبارة جامعة مانعة، مكتنزة بكل المعاني العميقة، والقيم النبيلة، والدلالات المستنيرة، كما أنها توحي بالاعتداد بالذات، والاعتزاز بالدين، وبالمجتمع الذي له قِيمٌ، لا يمكن التنازل عنها.

فقد تناصَّ ولي العهد مع التعريفَين اللغوي والاصطلاحي للقيم؛ حيث وصفها بأنها “قيم نبيلة ويفخر بها ولن يتخلى عنها”، هذا هو مبدأ الثبات والدوام في مفهوم القيم، كذلك ذكر أمرًا مهما في هذه العبارة، وهو أنَّ المجتمع المسلم يحترم القيم لدى للمجتمعات الأخرى، ولابد تبعا لذلك أن تحترم المجتمعاتُ الأخرى قيمَ المجتمع المسلم.

ثم ختم عبارته العميقة بقوله: ” … بما يعزز شراكاتنا ويخدم منطقتنا والعالم” فكأنه يشير إلى أن احترام المجتمعات الأخرى لقيمنا شرطٌ لاستمرار الشراكة معهم، بما يخدم المنطقة والعالم، وهنا مفهوم من زاوية أخرى، وهو أنَّ عدم احترام قيمنا ” النبيلة” سيؤدي حتما لفضّ الشراكة بيننا وبين الدول والمجتمعات التي لا تحترم قيمنا، وتفرض علينا ثقافتها وقيمها.
هكذا يكون القائد الواعي، المستبصر ببواطن الأمور، المتمتع برؤية ثاقبة، الذي يعلم قدر المسؤولية الملقاة عليه.

إذن لا ينبغي الارتماء في أحضان المجتمعات الأخرى، وأخذ ما لديهم دون تمحيص، كما لا يصح أن نتقبل كل إملاءاتهم دون رويَّة، فالتداخل بين المجتمعات شيء محبب، وتبادل المعارف، وتلاقح الخبرات أمر محمود، لكن تبقى العزة الحقيقية حينما تفحص ما يرد من المجتمعات الأخرى دون أن تنسلخ من الهوية، وعندما نتلقى ما لديهم من الأشياء المفيدة دون أن يحدث الاستلاب.

لتدرك جميع المجتمعات أن التنوع سمة مميزة، فرضها الله على خلقه، وأن الاختلاف واقع لا يمكن نكرانه، فقد قال تعالى: (ولا يزالون مختلفين…) هود 118 فلكل مجتمع خصوصيته المميزة له، التي يكتسبها من دينه وعقيدته وتراثه وعُرفه وعاداته، فلا مانع من استغلال هذا التنوع في الثراء المعرفي، والتبادل الفكري، والتكامل مع تقدير الخصوصية، واستفادة كل طرف من الآخر، لكن ليس بالتنازل عن القيم.

فلكل مجتمع قيم يسعى لتكريسها، ويعمل على حمايتها، والمجتمع المسلم له قيم نبيلة، كُتِب لها البقاء والثبات والدوام والاستمرارية، وذلك لأنها تأتي من مصدر خالد، ومنهل باقٍ، وهو الوحيان: القرآن الكريم والسنة النبوية، فحياة المجتمع المسلم تستلهم تلك القيم في جميع الأوقات والأماكن، لا تتغير ولا تتبدل، لأنها ترتبط بالله تعالى، وبنبيه صلى الله عليه وسلم؛ لذا لا يشوبها النقص، ولا يعتريها التحريف، وتستعصي على التبديل، ليس مثل القيم التي يكون منشؤها الإنسان، فهي تتبدل بتبدل الأحوال والأزمان والأماكن.

من هنا، فالمجتمعات غير المسلمة لها قيمُها التي تعتز بها، وهي ظواهر تنشأ لظروف وأسباب، في كثير منها تخالف قيم المجتمع المسلم وتناقضه؛ لذا ليس من الحكمة أن يطالب هؤلاء بفرض قيمهم على المجتمعات المسلمة ، فللمجتمعات المسلمة ضوابط لقبول ما يردها من غيرها، فهي تطبق معايير دينها على أية قيمة وافدة عليها، إنْ وافقتْ قيمَنا وأخلاقنا فستستوعبها المجتمعات الإسلامية وتقبلها، ولكن إن ناقضت مبادئ المجتمع المسلم وقيمه، فسترفضها رفضا قاطعا؛ لذا ليس من الحكمة، ولا من الحصافة أن تفرض المجتمعات الأخرى قيمها على المجتمعات المسلمة.

وفي عصرنا الحاضر حدثت كثير من التحولات الحضارية التي طالت الأنساق البشرية بشكل جارف، وأخذتْ في طريقها كثيرا من القيم الهشة غير الراسخة، لكن المجتمع المسلم قيمُه ثابتة ودائمة، فقد سعى الساعون للترويج لعدد من الأفكار التي لا تقبلها المجتمعات المسلمة، وكرَّسوا لها آلتهم الإعلامية بجميع فروعها، مثل فكرة الشذوذ الجنسي والمثلية، تحت راية أنها حرية شخصية، ينبغي إفساح المجال لها، ولكن لم يعلموا أنها إنْ كانت فكرة مشروعة لديهم، وقيمة مسموح بها في مجتمعاتهم، فالمجتمعات المسلمة لا تقبلها؛ لأنها تنافي قيمها وتناقض أخلاقها؛ فالإسلام دين الفطرة، فلا يمكن أن يقبل بانتكاس الفطرة.

فتبديل القيم يؤدي لطمس الهويات المميزة لمجتمع من المجتمعات، وهذا لا يرضى به أي مجتمع معتد بقيمه، متمسك بثوابته، فإنْ تراخى الجيل الحالي في تمرير تلك القضايا التي يروِّج لها أولئك، فستأتي الأجيال الجديدة، وتتلقفها، ولا ترفضها؛ لأنها ورثتْها من السابقين؛ لذا لابد من الصمود في وجه تلك الحملات؛ حتى لا يحمل الجيل الحالي وِزره مع وِزر القادمين.

ولا ينبغي لأحد أنْ يفهم أنَّ المجتمع المسلم لا يحبِّذ التطور، ولا يحب التحديث، لا، وألف لا، فالمجتمع المسلم منذ نشأته في مكة، ثم تكوين دولته في المدينة سعى بهديٍ من القرآن الكريم، وبتوجيه من النبي صلى الله عليه وسلم للتطوير والتحديث والتجديد، بشرط ألا ينافي قيمَه النبيلة، وأسوق مثالا واحدا لإثبات ذلك؛ إذ إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أمرَ زيدًا بن ثابت -رضي الله عنه – بتعلم اللغة العبرية، وذلك لأن المدينة كان بها يهود، يتعاملون مع المسلمين، ويختلطون بهم، وبينهم مكاتبات. والآن كثير من الدول المسلمة – وفي مقدمتها السعودية – تبتعث عددا من أبنائها وبناتها للدراسة في أمريكا وأوروبا، وذلك يُثبِت أن المجتمع المسلم ليس منغلقا، ولا رافضا للتجديد والتحديث.

مما سبق يتبين أهمية القيم النبيلة، ورسوخها، ويتضح رفض المجتمعات المسلمة للمساومة فيها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طارق يسن الطاهر
Tyaa67@gmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى