مقالات مجد الوطن

الذبابة الطائرة 

 

محمد الرياني

 

أشياء كثيرة تغيرتْ في حياته، دوائر متشابكة يراها أمام عينيه مثل لوحة رمادية لايفهم أبعادها، أصبح يقترب أكثر من محدثيه ويضع إصبعه المجاورة لإبهامه ليحرك صيوان أذنه كي يسمع أكثر، يصيح في محدثيه بأن يرفعوا أصواتهم ليوضحوا كلامهم، لم يعد يرتدي ساعة صغيرة الحجم كما كان يفعل، اشترى ساعة بأرقام كبيرة تضيء في الليل ليرى أكثر، تناقصت أسنانه الأمامية، بعض المقربين منه يبتعدون عنه عندما يتحدث كي لا يصيبهم شيء من ريقه، يتحدث بسرعة وأحيانًا بحروف متشابكة غير مفهومة، يضع في جيبه نظارتين واحدة ليرى البعيد وأخرى ليقرأ الفواتير ورسائل الهاتف ، ينسى إحداهما أحيانًا مكان جلوسه وقراءته، وقد يدهس الأخرى بقدمه فتتشظى ، تبلى الثياب القديمة، يتسع بعضها ويضيق الآخر منها، تأففٌ غيرُ مسبوقٍ ضدَّ صاحبِ النظارتين وحاملِ العكاز، جلس ذات يوم يراجع حساباته، اكتشف أن العمر يمضي بأسرع مما كان يتخيله ، كان ينظر إلى الرجال الأشداء في منتصف العقد الرابع على أنهم قد بلغوا من العمر عتيًّا ، هوى العمر صريعًا بعدما اكتملت الفصول، تساقطت أوراق الخريف، يبست على الأرض التي ضمتها إلى ترابها، لم يبق من الربيع غير الذكريات، أو من الشتاء غير صور البروق اللامعة التي كانت تملأ الفضاء، مرَّ العمر مثل سحابة صيف، أمطرتْ على قيعان ثم جاءت الشمس لتشرب الماء بحرارتها من القاع ويختفي مطر الصيف، اكتملتْ دورةُ الحياة عنده ، تبسمَّ أكثر بعدما فقد ثنايا أسنانه وقدرته على قراءة أرقام الساعة الكبيرة، رضخَ عند الدوران على الكوكب المؤقت ، شكَّ في أن الذبابة الطائرة أمام عينيه تقول له: اغمض عينيك كي لاتراني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى