مقالات مجد الوطن

تَرقِيَة

محمد الرياني

 

يقلِّبُ الأوراقَ بين يديه، حائرٌ بأيِّ الأوراقِ يبدأ، تائهٌ لا يعرف الأولويات، يبدو أولُ النهارِ عنده مثلَ منتصفه ، غيرَ أن تقليبه للأوراقِ في غايةِ الأناقةِ وكأنه يرتبُ جنيهاتٍ من الذهب، لم أكن لأدققَ في المشهدِ المختلف، كنتُ مهتمًّا بالأوراقِ بعيدًا عن كلِّ التفاصيل، لم يرفع عينيه، كان منهمكًا مهتمًّا بالأوراقِ وكأنه يبحثُ عن شيءٍ ضائع، أصدرتُ صوتًا وكأني أتنحنحُ من أجلِ أن ألفتَ انتباهَه فقد وقفتُ طويلًا وهو يقلِّبُ الأوراق، حديث نفسي يقول إن الأوراقَ عنده أهمُّ من هذا الواقفِ الذي ينتظرُ الفرج، أخيرًا رفع عينيه في وجهي، بدتْ ملامحُه حزينة ، تمنيتُ أنني لم أقفْ أو أنتظرْ أو أُصدرْ صوتًا، قال لي بنبرةٍ حزينةٍ يبدو أنني تأخرتُ في خدمتِك! ابتسمتُ ابتسامةَ المُتعجِّبِ وأنا أطوفُ برأسي في الجهاتِ التي تحيطُ به ، ناوَلَني ورقةً صفراءَ أنيقةً ودعاني لأقرأها جيدًا قبلَ أيِّ شيءٍ آخر، لم أفعل شيئًا إزاء توجيهه، ثنيتُ الورقةَ ووضعتُها في جيبي وغادرتُ المكان، في الطريقِ رنَّ جرسُ هاتفي بإلحاحٍ بعد أن تجاهلتُ الردَّ في المرةِ الأولى وقد ظهرَ الرقمُ بلا اسم، كان هو في الطرفِ الآخرِ يطلبُ مني العودةَ إليه على وجهِ السرعة، أخرجتُ الورقةَ من جيبي لأستطلعَ الأمر، وجدتُ ورقةَ استقالتِه ملتصقةً بورقتي، عدتُ إليه بعد دقائقَ قليلة، وجدتُه وقد أغلقَ البابَ وهو ينتظرني عنده في الخارج، أقسمتُ بأن يتراجعَ عن فعلته، وضعتُ ورقتي في جيبي بعد أن تأكدتُ من أنَّ لاشيءَ يلتصقُ بها، تنفسَ الصعداءَ وهو يبوحُ بسرِّ استقالتِه، فتحَ البابَ وجلسَ على كرسيه ومزَّقَ ورقةَ الاستقالةِ ووضعَها في سلةِ النفايات، تعوَّذَ من الشيطانِ الرجيم، قال إن بعضَ الكلامِ يشعلُ الأوراقَ ليحرقَ أجملَ الأشياءِ فينا، قلتُ له مازحًا لعلي أطفأتُ لهبَ الغضبِ بماءِ السنين التي أحملها ، كنتُ واقفًا فدعاني للجلوس، أحضرَ لي كوبًا من عصيرٍ باردٍ وله مثله، رنَّ تلفونُ مكتبِه فضحكَ حتى بدتْ نواجذُه من الفرحة، وقفَ دون شعور ، قالَ لي : باركْ لي أيها المبارك ، لقد صدرتْ ترقيتي اليوم ، بماذا أكافئك؟ مسحتُ بقايا العصيرِ من فمي وتركتُه يسبحُ في فرحتِه، خرجتُ من عنده ويدي في جيبي تتشبثُ بورقةِ إجازتي، تمَّ منحي يومين من الإجازة ، اكتفيتُ من فرحتي له بيومٍ واحدٍ ، استأنفتُ عملي في اليومِ الآخر، في الصباحِ قصصتُ على زملائي حدثًا رُبَّما لم يروا مثلَه أو يصدقوه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى