مقالات مجد الوطن

(هل تراكَ جميلاً ؟) 

 

هناك مقولة رائعة لتولستوي الروائي الروسي الفذ (نفسٌ جميلة في جسدٍ جميل فذاك هو المثل الأعلى للجمال ).

الجمال .. كلمة يبحث عنها البشر في كل شيء ، في مظهرهم و بيوتهم و شتى تفاصيل حياتهم ذلك أن الكون ذاته خلقه المولى جميلاً و لا يقتصر على أبعاد الإتقان في المضمون و المحتوى بل إن أحد دلائل الإتقان في الخلق هو جمال المخلوقات و روعة مظهرها الخارجي ، فالسماء ليست سقفاً مرفوعاً فحسب بل هي لوحة بديعة لفضاء شاسع تتناوب عليه آيات الليل و النهار و الشمس و القمر و النجوم فتارة هي غلالة سوداء حالكة مرصعة بحبات من ماس و بدرٌ هو حبة لؤلؤ عملاقة ، لوحة حالمة تلهب أخيلة الشعراء ، وتارة أخرى هي لوحة مشرقة ملونة بربابٍ أبيض و خلفية زرقاء و طيور تنسج عقداً تموج في سرب بين قمة جبل هنا و سفح وادٍ هناك ، الجمال يشكل عنصراً ضرورياً و متمماً لا عنصراً كمالياً .. و الجمال نسيج يضرب بخيوطه على سائر المرئيات بل و المسموعات و المحسوسات من مخلوقات هذا الكون ، فالجوارح مهيأة لتتلمس لذة الجمال في كل عنصر، الكون ذاته منظومة متكاملة من جمال إلى جمال حيث يمتع الله الإنسان سمعاً و ذوقاً و حساً و نظراً و لمساً بجمال لا يقابله حمدٌ و لايوازيه شكرٌ من العبد مهما اجتهد.

الجمال كما هو ظاهر مادي محسوس فهو أمر باطني يتم قياسه بمعيار الشعور و الوجدان و عليه فالأفعال تحتاج إلى تتويجها بجمال ، جمالٌ يزين أبعاد الصنائع فتكسب صفة المعروف و الحسن ، و تتبعها الأقوال.

 

وهج :

 

فلولا جمالٌ زينَ القولَ لما..

بانت عيونُ الشعرِ و الأدبِِ

 

إن الحروفَ أشكالٌ مقطعةٌ..

يُحيلُها الحسنُ سِحراً

فواعجبي

 

الجمال هو العنصر الخفي لإتمام كل شيء ، و هو كلمة السر التي تفتح رتاج الكمال و القبول و السعادة ، و الإنسان خَلقٌ من خلق الله ، و قد خُلقَ في أحسن تقويم بما يجعله جميلاً حين النظر ، و ذلك الجمال الشكلي يختلف باختلاف المقومات الجسدية و الملامح البشرية و تختلف معاييره باختلاف الثقافات و الحضارات بل حتى معايير الجمال بين الجنسين مختلفة باختلاف دوريهما و طبيعتهما ، و ما من بشر إلا وقد منحه الله مسحة من جمال في شكله مهما كان يوصف بالقبح و ليس هناك قبح مطلق كما أنه لا يوجد جمال مطلق في أشكال البشر فهو أمر نسبي يعتمد معايير التقبل و اختلافها من أحدهم إلى الآخر ، و سر الجمال في البشر أنه يشكل معادلة مركبة من ملامح مادية و انعكاس روحي و مرآة نفسية ، و إلا فلماذا نرى امرأة بارعة الجمال شكلا و يكتفى بالنظر إليها مرة و لا عاملاً آخر للجذب يوجد لتكرار ذلك؟ الجواب أن انعكاساً ما من داخل روحها أو نفسها ظهر على ملامحها فسبب نفوراً كأن تكون المرأة ذات حقد أو حسد أو سوء نفس ، و تضاد ذلك تراه في امرأة متوسطة جمال الملامح و لكنها تسرق النظر و الفؤاد كون صفاء روحها ينعكس إيجاباً عليها فيجعلها أجمل من حقيقتها، و حتى في عالم الرجل كم من وسيم بارع الشكل لكنه مكروه لخبثه و قلة رجولته، و كم من موصوف بأنه عادي يتعجب الخلق من جاذبيته للطفه مثلا أو ذكائه و منطقه ، و النموذج الأروع كما قرره تولستوي في أن يجتمع جمال الجوهر و المنظر بنِسَب مما يشكل الجمال البارع ، و جمال الشكل لا يد لبشر فيه اما جمال المخبر فأمره بين يديك ، إما أن تزيده بصفات مميزة أو تنقصه بسيء الخلال ، و أكبر الخيبات لمن سعى على جمال شكله دون جوهره فتجد بعض نساء يسعين مستميتات لقياسات جسد مثالية و يشتغلن على ذلك بضروب التجميل و التنحيف و الزيادة و النقص و تظل المسكينة تعمل أعمالاً شاقة مؤبدة لإنقاص كيلوات من الوزن فهذا هو رأس مالها و لا تملك غيره لتحافظ عليه ، و تجد آخر لا يدرك من جمال المرأة إلا ذات المقاسات فهو اغبى من أن يتلمس وضاءة وجه و بريق عين و روعة تميز معنوي كذكاء أو خفة ظل ، و هذه المعايير في ظني هي التي تخلق تهاوي الجسور بين الجنسين فما يراه احدهم جميلاً لا يشترط أن يراه سواه كذلك ، فكلٌ له منظاره الخاص بعينيه و فؤاده .

 

في رأيي أن الجمال للجنسين هو ذلك المزيج من مظهر و جوهر و عناية و لكل معاييره التي تتراوح بين السطحية لمجرد الشكل و العمق للمضمون و المحتوى ، و حبذا لو علم الإنسان أن الجمال ثقة تشع من داخل المرء كنور ساطع يجعل من يراه يرى صاحبه جميلا ، الجمال رحلة طويلة تبدأ من عمق الإنسان لا سطحه و تنتهي بمحطة أخيرة يُهبط منها على رصيف الشكل الأخير فإن كانت المحطات المعبورة جميلة كانت محصلة الرحلة النجاح و الرضا و إلا فلا ، نصيحتي لكل امرأة اجعلي ثقتك بنفسك و أدواتك هو منطلق جمالك و حسني العمق يظهر السطح نقياً و اعتني بهما معاً مظهراً و جوهراً تكونين رائعة الجمال ،فكري باصرار سأظل أحيا بمقاييسي الخاصة التي تجعل مني مخلوقاً مميزاً ، اتركي مقاس الخصر الذي يؤرق المسكينات اللاتي لا تملكن غير الخصر جمالا، و افخري بمائة معيار إضافي يجعلك ملكة جمال بعيداً من مجرد سخف زيادة عدة سنتيمترات ، من كثرت و تعددت أدواتها و مميزاتها اتسع أفقها لجمال لا مسبوق و من فقرت و اقتصرت أدواتها على قياس جسد أعانها الله على أسر سجن يبدأ من حساب ذلك المقاس و ينتهي إليه.

 

و مثلها في ذلك الرجل الذي يهتم بمظهره او ممتلكاته المادية فحسب و يفرح بمجرد كونه ذكراً و يُغفل ثقافته و خلقه و عمقه فيظل مفتقراً إلى الجمال مبقياً على السطحية و الضحالة فالثراء و الزخم ينضحان من العمق لا السطح .

و ما أدق المقولة :

( إذا وُجد المضمون ، انصاع الشكل)

 

أد. فاطمة عاشور

سيدة الوهج والحرف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى