مقالات مجد الوطن

 الفستانُ الثاني

 

محمد الرياني

مِسكينةٌ هيَ أمُّ وحيدة، كبرتْ ابنتُها وشبَّت كالحِسان، انفصلتْ عن زوجِها شابةً لتتفرغَ لوحيدة، سرَتْ مع ابنتِها في ليلةٍ قَمَريَّةٍ لتحضرَ عُرسَ ابنةِ الجيران، فتحتِ الدولابَ ولاتزالُ فيه بعضُ الفساتينِ القديمة، بعضُها لم يُلبس إلا في مناسبةٍ أومناسبتين، اختارتْ واحدًا فتذكرتْ تلك الليلةَ التي تلقَّتْ فيها أقسى صفعةٍ من زوجِها وهي تتزيَّن له، ارتدتْه وهي تغالبُ دموعَها وابنتُها تصبِّرُها وتذكِّرُها بأنها ذاهبةٌ إلى فرح، دخلتا وسطَ ذهولِ الحاضراتِ اللاتي احترنَ في التمييزِ بينهما ، اقتربتْ واحدةٌ من الأمِّ بدافعِ الفضول، همستْ في أذنِها : وَحيدةٌ أنتِ أم أمُّها؟ أجابتْها ضاحكةً لا.. لا بل أمُّها، نظرتْ إليها بغيرةٍ ، عروسٌ يا أمَّ وحيدة، سارت الاثنتان؛ الأمُّ وابنتُها في الزحام، اتجهت الأنظارُ نحوَهما، وحيدةٌ بفستانِها الورديِّ وقد اختلطَ لونُه بلونِ بشرتِها، وأمُّها بفستانِها الأصفرِ الذي تشكَّلَ مع اصفرارِ لونها، همستْ وحيدةٌ في أذنِ أمِّها، أخشى علينا من النظرات ، خاصةً نظراتِ العروسِ وتلك المرأةِ التي اقتربتْ منك ، تمتمتِ الأمُّ بدعاءٍ ومسحتْ على جانبيْها وجانبيْ ابنتِها خلسة، انتهتْ مراسمُ الفرح، جاءتْ مَنْ تخطبُ الشابَّةَ الحسناءَ من أمِّها، عادتْ إلى البيتِ تفكرُ في جواب ، تخشى على ابنتها مصيرًا مثلَ مصيرِها، وضعتْ رأسَها على الوسادةِ تبحثُ في ذاكرتِها عن الرد، ظلَّتْ تنظرُ بحسرةٍ إلى دولابِ ملابسِها وتتفقدُ مجوهراتِها حولَ جيدِها ويدِها، حدَّثتْ نفسَها: لم أستمتعْ بحياتي وأنا في سِنِّ الشباب، انتَظَرُوها يومين… ثلاثةَ أيام، جاءوها بكلِّ خياراتِ الزواجِ لابنتِها كي توافق، انهمرَ دمعُها فاحمرَّ خدُّها، ازدادتْ جمالاً، سادَ صمتٌ وهمسٌ في المكان، نصحُوها بالزواجِ حتى لاتَحرِقَ الدموعُ جمالَ وجنتيْها، أُقيمَ لوحيدةَ احتفالٌ في منتصفِ الشهر، وقفت الأمُّ جوارَ ابنتِها ليلةَ العرسِ حتى انتهتِ المراسم، غادرَ الجميعُ فاتجهت الأمُّ لترتاحَ على أريكة، وقفتْ إحدى الحاضراتِ عندَ رأسِها وهي تباركُ لها زواجَ ابنتِها، نهضتْ تتلقى العِناقَ بالفرحِ وبفراقِ ابنتِها، قالت لها وهي تهمسُ في أذنِها : استعدِّي يا أمَّ وحيدةَ هناك مَنْ يطلُبُ وُدَّك ، ردَّتْ عليها وهل هذا وقتُه الآن؟ تركتها لترتاحَ على الأريكةِ وغادرت، عادتْ وهي تشعرُ بالوحدة، وقفتْ عند دولابِ ملابسِها وأخرجتْها ثمَّ وضعتْها في كيسٍ أسودَ وعزلتْها، وقفتْ أمامَ المرآةِ الملتصقةِ في الدولاب، رأت بعضَ معالمِ الشبابِ والجمالِ لاتزالُ في وجهِها، رمتْ نفسَها على السريرِ وهي تفكرُ في لونِ الفستانِ الذي سترتديه ثانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى