مقالات مجد الوطن

المتعازب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأسرة هي النواة الأساسية للمجتمع ، وتتكون الأسرة عن طريق الزواج ، وقد رغَّب الإسلام في الزواج ، وحث عليه ، حتى يكبر المجتمع المسلم ، ويكون عونا في خدمة الدين ونشره، كما ورد في حديث الثلاثة الذين حرّموا على أنفسهم المباحات ، فاستنكر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، وقال : ( لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي ).

وينبغي للزواج أن يكون مودة ورحمة ؛ حتى يحقق غايته ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) الروم 21 ، وينبغي للزوجة أن تكون سكنا لزوجها ( لتسكنوا إليها ) ، وأن يكون البيت المسلم ملتزما بأخلاق الإسلام ؛ حتى يصبح قادرا على تنشئة جيل قادر يتحلى بالخلق الإسلامي القويم .

خلو بيت الزوجية من المشكلات والخلافات أمر لا يمكن أن يحدث، فقد حملت لنا السيرة خلافات كانت في بيت النبوة ، ولكن الحياة تمضي بالحد الأدنى من التراضي وقبول الآخر .

ولكن قد يختل ذلك التناغم ، ولا يكون البيت سكنا ،ولا الزواج مودة، ولا رحمة، ساعتها يحدث أحد ثلاثة أمور : إما الطلاق بنقض عرى الزوجية ، وإما البقاء في الزواج مع كثرة المشكلات والخلافات ، وإما أن يظل الزوجان في بيت الزوجية ويعيشان فيه أجسادا لا أرواحا ، بدون تواصل ولا صميمية ولا حميمة ، يظللهم الصمت المطبق .

هنا تكون المرحلة التي سميتُ الزوج فيها : المتعازب ، وهي كلمة ابتدعتُها من نحت وتركيب كلمتين وهي: المتزوج العازب ، الذي ينام وحده ويأكل وحده ويخرج وحده ، وكل واحد من الزوجين له عالمه الخاص الذي يعيش فيه ، ولا يلتقيان ، لا يدري أحد الزوجين عن الآخر شيئا.

النحت والتركيب من أبواب اللغة ، ويكون بنحت جزء من الكلمة الأولى وجزء من الثانية، ثم تركيبهما معا ليصبحا كلمة واحدة ، مثل كلمة “عبشمي” ، وهي نحت وتركيب من كلمتين : عبد شمس ، كما قال الشاعر :

*وتضحك مني شيخة عبشمية*
*كأنْ لم تَرَ قبلي أسيراً يمانيا*

المتعازب يهمل بيته وأسرته ، ويظل مستمرا في حياة العزوبية الزوجية ، والبقاء خارج المنزل مع الأصدقاء ، ولا يأتي البيت إلا قليلا .

يظل المتعازب صامتا طول بقائه في البيت ، لا يوجد حوار بين الزوج والزوجة ، وكأنهما يسكنان في فندق ، كل منهما يستغل غرفة ، ولا يلتقيان على أي شيء ، وربما يتواصلان بالرسائل في الأمور المهمة التي يعتمد عليها بقاء البيت .

المتعازب يظل ملتزما بمنطقة الأعراف ، متقوقعا فيها ، فهو في منزلة بين منزليتين ، لا إلى هؤلاء ، ولا إلى هؤلاء ، لا هو متزوج ولا هو أعزب.

حالة المتعازب انتشرت بشكل كبير جدا في الفترة الأخيرة ولها عدة أسباب منها : الرؤية القاصرة للهدف من الزواج، ومنها عدم تأهيل الزوجين لدخول عالم الزوجية ، ومنها تحقيق أحد الطرفين رغبته ومأربه من الزواج، ومنها الاستقلالية المادية للزوجة، وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي ، ومنها قلة الوازع الديني لأحدهما أو لكليهما ، ومنها تدخّل الأهل في العلاقة بين الزوجين، كذلك اختلاف الفهم لدى أحد الزوجين عن الآخر ، وأيضا تخيُّل أحد الزوجين أشياء غير حقيقية ، هو من صنعها وخلقها ، ثم آمن بها وبدأ يعامل الآخر بمقتضاها المتوهَّم من البدء ، وصارت عنده حقيقة مسلم بها ، وغير ذلك كثير …

لماذا يصبر المتعازب على العيش في هذه الحالة ، ويبقى رهين الأعراف ، ويفضل أن يكون مذبذبا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، ولا يتخذ أية خطوة لينتقل بها إما العودة للعزوبية وإما العيش في حياة الزواج الحقيقية ؟

ربما نستطيع تفسير ذلك بعدة أسباب : أهمها عندما يكون بينهما أطفال ، فيقول أصبر حتى لا يتشرد الأطفال ، ربما يكون من النوع الذي لا يستطيع القيام بحاجاته ؛ فيصبر لأنه يحتاج للزوجة لتقوم له بشؤونه من طبخ وغسل ملابس وغيرها من أمور البيت التي لا يحسن فعلها ، وربما لعجزه عن اتخاذ قرار ، وربما لخوفه من مواجهة ذويه بقراره إن اتخذه ، ربما لوجود مصلحة تهمه من استمرار زواجه ،وربما لحسابات أخرى غير ذلك …

لكن ربما تكون الاستمرارية في حالة المتعازب خطرا على الأسرة ؛ لذا يكون البعد أفضل ، والفراق حلا ، وما شرع الله الطلاق إلا لعلاج مثل هذه الحالات .

ولو طرحنا خيار الطلاق بعيدا وسعينا لعلاج ظاهرة المتعازب ،وحتى يعود البيت الزوجي للوضع الطبيعي يجب أن يجلس الطرفان معا ، ويتصارحا ، هذه المصارحة قد تجدي حينا ، ولكنها قد لا تكون مجدية أحيانا ، في مرحلة من المراحل، خاصة لو وضع أحدهما أحكاما مسبقة ، وسبقت نتائجه المقدمات ، كذلك لا تكون جلسات المصارحة مجدية لو انعدمت الرغبة في الاستماع ، ولم تكن النوايا صادقة ولا الأهداف نبيلة ، ولو تكلم أحد الطرفين -–أثناء الجلسة – أكثر من أن يستمع ، ولو لم يترك أحدهما للآخر فرصة أن يكمل كلامه ، ويقاطعه قبل أن يكمل فكرته .

لذا قد يلجأ الطرفان للوسيط المصلح ” حكما من أهله وحكما من أهلها …” النساء 35 وقد ينجح الوسيط المصلح في لم شمل الزوجين ، ورأب صدع الأسرة ، ومحو حالة المتعازب بنقلها لطرف المتزوج ، وإعادة الأمور إلى وضعها الطبيعي ، وقد لا ينجح .

لو حدث كل ذلك ، وتقطعت الأواصر واستحال الإصلاح فلا بأس من الفراق ؛ لأنه قد يكون الخيار الأمثل الذي بسببه يحافظ الطرفان على الحد الأدنى من العلاقات الإنسانية .
لأن الفراق أحيانا يكون سببا يمنع حدوث تشوهات نفسية للأطفال ، ويحافظ على بقايا الإنسانية بينهما ، وبذا تسلم علاقات أسرتي الزوج والزوجة من التشظي ، لأنه أحد خيارين قررهما الله تعالى : ( فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ) البقرة 229 فأفضل لهما الفراق من البقاء في جو مشحون بالخلافات أو مفعم بالصمت الذي يمارسه المتعازب في حياته الزوجية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*طارق يسن الطاهر*
*Tyaa67@gmail.com*

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى