مقالات مجد الوطن

سعْيُ المحبين إلى مقام العاشقين محاولة لقراءة نص “مقام العاشقين” للشاعر معبر النهاري

 

قراءة طارق يسن الطاهر

ماذا يمكن للشاعر المسلم أن يكتب شعرا في موضوع أجلَّ وأسمى من الحديث عن سيد المرسلين ، وخاتم الأنبياء محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم؟

هنا تتقاذف الشاعر ناحيتان ، ثراء الموضوع من جهة، وخطورته من جهة أخرى ، فالحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ذو شجون، ولا حدَّ له ، وكذلك قد يتخوف الشعراء من طرقه ؛ لأن الإحاطة به تستحيل، ولأن شعرا في موضوع كهذا يتطلب الإلمام بكل أدوات الشعر.

هذا ما امتلكه شاعرنا الكبير معبر النهاري، فقد ارتقى هذا المرتقى وكان قادرا ؛ لأنه يعرف عمَّن يتحدث ، فكان ذا بضاعة غير مزجاة تمكِّنه من سبر غور هذا الموضوع القيم.

لذا تجده يستحث قريحته ، ويستنهض همة شعره ؛ حتى يُعِدَّ الطاقة التي تمكِّنه من ذكر المصطفى صلى الله عليه وسلم:

يَا شِعْرُ رَونِقْ كُلَّ طُهْرٍ عَابِقٍ أهْرِقْ دُمُوعَ الْقَلْبِ يَا مُضْنَاهُ

برز مدح النبي صلى الله عليه وسلم منذ فجر البعثة ، فتميز فيه حسان ابن ثابت وكعب بن زهير وعبدالله بن رواحة وغيرهم رضي الله عنهم جميعا .

وكان من حماية الله لنبيه أن أبطل مفعول مَن هجاه صلى الله عليه وسلم ، فحفظ لنا التاريخ شعر مدحه ، ولم يحفظ ما قاله ابن الزبعرى و أمثاله في هجائه صلى الله عليه وسلم ، فقد كفاه الله المستهزئين كما وعده .

نصطحب معنا بردة كعب بن زهير وبردة البوصيري وبردة شوقي لنصل لرائعة معبر، فهي لا تقل عنهن جمالا وألقا ورصانة.

بدأ الشاعر قصيدته بالحديث عن مقام العاشقين الذي لا يشبهه شيء، وأن اللغة تقف عاجزة ، والشفاه تظل حيرى ،والبيان يبقى معطلا عند الحديث عن هذا المقام السامي .

ثم يستلهم مادحي النبي صلى الله عليه وسلم : كعب بن زهير وحسان ابن ثابت رضي الله عنهما ، فهو يرى أن قصيدته في مدحه صلى الله عليه وسلم استعصت على الإتيان ، وغلقت الأبواب ،ولم تتح له النفاذ إليها .

ويقارن شاعرنا الحائر بين حاله وحال العشاق الذين أشعلوا فتيل حروفهم ، وهو سامرٌ مع ضيائه صلى الله عليه وسلم .

ثم ينطلق لسرد بعض الأماكن التي شرفت بمروره صلى الله عليه وسلم من السلام ،وغار حراء …

ثم هطل بوح القصيدة عليه بعد أن استعصت ، كما قد هطل البوح المقدس عندما أفاض رُواه عليه الصلاة والسلام.

ثم يمزج الشاعر بين نفسه وبين أحداث عظيمة استلهمها من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وبرز كأنه عاصرها أو كأنها حدثت الآن ،وهو يشهدها.

وتمضي القصيدة بنا عذبة الكلمة، رقيقة العبارة ،عميقة المعنى ،سلسة السرد ،منسابة الأحداث .

على المستوى البلاغي، فقد مزج شاعرنا بين الأسلوبين الخبري – الذي كان هو الغالب – والإنشائي الذي يأتي حينا ويغيب ، حسب الاحتياج ؛ ليجذب المتلقي ، ويمكِّنه من الانتباه ، ويلفت نظره ،ويمنحه طاقة التشويق.

فمن الإنشائي الاستفهام في :
مَاذَا يُقَالُ؟! وِذِي (حَلِيمَةُ) وَالشَّذَا صِنْوَانِ قَدْ رَبَّاهُ يَا رَبَّاهُ!

ومزج شاعرنا ببراعة بين نوع من الإنشاء الطلبي “الاستفهام ” ونوع من الإنشاء غير الطلبي “التعجب” ببراعة فائقة في بيت واحد ، حين قال :

مَالِي بِبَابِ الْقَبْرِ أَصْمُتُ فَجْأَةً للهِ هَذَا الْقَلْبُ مَا يَغْشَاهُ!

 

كذلك الجناس، وهو من الحلى اللفظية ؛ إذ يعطي الكلمات جرسا موسيقيا، ويوهم القارئ بتكرار الكلمة، ولكنهُ يفاجئهُ فيما بعد باختلاف المعنى مع تشابه اللفظ ، ومن ذلك في نص شاعرنا جاء به تاما في قوله :
رَبَّاهُ يَا رَبَّاهُ
رباه الأولى من التربية ، ورباه الأخرى نداء للرب عز وجل ، وحتى النداء يخرج لأغراض بلاغية ،ومنها التعجب والاندهاش.
كذلك جاء الجناس الناقص في : هداه ، هواه …

وهناك العديد من الصور البلاغية كالاستعارة التي احتشدت في النص فأعطته بهاء وعمقا وخيالا خصبا ، ومنها :

قَدْ أَسْرَجَ الْعُشَّاقُ زَيْتَ حُرُوْفِهِمْ

ومن الاستعارات أيضا :
وَتَلَعْثَمَتْ شَفَةُ(الْكَمَنْجَةِ) دَهْشَةً

وفي :أطْرَقَتْ نَجْوَاهُ
وغيرها كثير…

 

 

كما تطل علينا الثقافة الدينية التي يتمتع بها الشاعر ، والتي تتمثل في الاقتباس ، ومن شواهده في النص :
قَدْ جَاءَ مِنْ أَقْصَى الْقَصِيْدَةِ حَامِلاً
وهذا مقتبس من قوله تعالى :
( وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى )
وأيضا :
قَدْ غَلَّقَتْ رُوحُ الْقَصِيْدَةِ بَابَهَا
من قوله تعالى : ( وغلقت الأبواب …)

وكذلك يقتبس من الحديث الشريف : ( ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة..) فيقول:

دَعْنِي أُمَسْجِدُ فِي ذُرَاهُ مَشَاعِرِي مَا بَيْنَ مِنْبَرِهِ إِلَى مَأْوَاهُ

وكذلك الترادف ،وغرضه تأكيد المعنى، ومنه : الضياء – سناه ، وكذلك أنادم – أسامر …

والقصر في قوله : مَا كَانَ إِلَّا النُّورَ
وغير ذلك

 

أما على المستوى الصوتي ،فنلحظ تكرار بعض الحروف ، فقد تكررت بعض الحروف في بيت واحد ،وفي شطر واحد أحيانا ؛ مما أعطى النص بُعدًا موسيقيا رائعا يمتع الأذن، ومنه حرف الصاد – وهو من حروف الصفير – في :
قَدْ جَاءَ مِنْ أَقْصَى الْقَصِيْدَةِ حَامِلاً

وبرز حرف صفير آخر مكررا وهو حرف السين في :
فَطَفِقْتُ أَقْبسُ مِنْ ضِيَاءِ سُجُوْدِهِ هَدْيًا أَدُسُّ الرُّوحَ فِي ذِكْرَاهُ

والطاء في :
أَنَا فِي رِحَابِ الطُّهْرِ مَحْضُ طُفُولَةٍ

كما أورد كلمات تتضمن معنى صوتيا ومنها الكمنجة والنوتة….

وعلى المستوى النحوي فقد تنوعت الجمل بين الاسمية والفعلية ، ومعلوم أن الجملة الاسمية تدل على الثبوت والاستمرار، والفعلية تدل على الحدوث والتجدد .
فمن الاسمية قوله :
هَذَا (الْمَقَامُ) وَمَالَهُ أَشْبَاهُ
ومن الفعلية :
فهَمَى عَلَى وَجَعِ التَّخَاطُرِ خَافِقِي

وقد كانت الكلمات والتراكيب مستخدمة في مكانها؛ بحيث تتفاعل نحويا مع بقية المستويات.
ونوّع شاعرنا بين الأفعال بأزمانها الثلاثة ؛ مما جعل الزمن عنده متحركا حيا ، ليس جامدا ميتا.

واتبع الشاعر أسلوب التقديم والتأخير، الذي جاء في مكانه ، وحقق أغراضه ، ومنها الاهتمام والاختصاص ، وتمكن بقدرة فائقة من ذلك ، حسب مقتضيات الوزن ومتطلبات المعنى ، ومنه :
لِيَذُوبَ نَبْضًا في مَقَامِ غِنَاهُ

 

أما على المستوى الصرفي فد استخدم الشاعر معظم المشتقات ، ومن ذلك :
اسم التفضيل في “أقصى” ، واسم الفاعل في “حاملا” ، والمصدر في “نبض” ، واسم المفعول في “المقدس” …

كما تنوعت الأفعال ما بين المجرد مثل : سار ، والمزيد ومنه تهاطل ، وكل زيادة في المبنى كانت تعطي زيادة في المعنى لا يتوافر بدونها.

تميز شاعرنا بقدر من الاشتقاقات والتصريفات في كلمات لم ترد كثيرا في اللغة ؛ إذ اقتحم – باقتدار- تلك المجاهل اللغوية المعقدة ، ومن ذلك قوله “فُردِس” في :
مَا كَانَ إِلَّا النُّورَ فُرْدِسَ آيةً مِنْ كُلِّ طُهْرٍ قَدْ بَرَاهُ اللهُ
وكررها بصيغة أخرى “فردست” ، حين قال :
فَرْدَسْتُ فِي أَثَرِ (الْبُرَاقِ) جَوَارِحِي وَسَكَبْتُ دَمْعِي فِي (بَقِيعِ) حِمَاهُ

ويذكرني ذلك ببيت الشاعر الكبير البردوني حين قال :
مُذ بدأنا الشوط جوهرنا الحصى بالدّمِ الغالي وفردسنا الرّمال

ومنه أيضا اشتقاق الفعل تكوثر من اسم الكوثر في قوله :
بَلْ كُنْتُ قَلْبَ (النَّبْعِ)يَضْحَكُ تَالِيًا سُوَرًا تُكَوْثِرُ لِلصَّدَى رَيَّاهُ

وأيضا اشتقاق الفعل : أمسجد في قوله :
دَعْنِي أُمَسْجِدُ فِي ذُرَاهُ مَشَاعِرِي

 

على المستوى العروضي ، فقد بدأ الشاعر قصيدته ببيت مصرع ،والتصريع هو أن يجانس الشاعر بين شطري البيت الواحد في مطلع القصيدة أي يجعل العروض مشبها للضرب وزنا وقافية كما في البيت الأول من قصيدة شاعرنا :

هَذَا (الْمَقَامُ) وَمَالَهُ أَشْبَاهُ ثَمِلَ (الْبَيَاتُ) وَأَطْرَقَتْ نَجْوَاهُ

انتهج شاعرنا في قافيته رويَّ الهاء المضمومة ،وما قبلها ممدود ، وهي قافية صعبة تذكِّرني بلزوميات المعري، لا يستطيع كثير من الشعراء الالتزام بها خاصة في قصيدة طويلة كهذه .
فحرف الهاء ، هو حرف مهموس رخْوٌ ، مخرجه من أقصى الحلق ، فأتى بالهاء الأصلية في نهايات بعض الأبيات مثل : الله ، … وبهاء الضمير في غيرها مثل : مأواه ، شذاه …
نظم شاعرنا قصيدته على بحر الكامل التام بتفعيلاته الست ، وجاءت بعضها سليمة ، وبعضها فيها إضمار، وهو تسكين الثاني المتحرك ، حيث إنَّ تفعيلة “متَفاعلن” تصبح “متْفاعلن”، وهو زحاف حَسَن.

 

أما دلاليا ، فقد تميزت مفردات القصيدة بالأبعاد الدلالية التي تعبر عن ثراء اللغة ، وتبين قدرة الشاعر الفائقة على توسيع المعنى ، فكثير من الألفاظ انزاحت لتعبر عن غير معناها المتعارف عليه ومنها : أفاض، عكف ، أدس …

هناك ظاهرة تفوق فيها شاعرنا ، وهي ذكر الأسماء في الشعر، فذلك أمر صعب جدا؛ لأنه يحتاج إلى مهارة فائقة ،تجعل الشاعر قادرا على تذويب الاسم – رغم جموده- داخل النص الشعري ،دون أن يكون هناك نشازا ، وهذا ما تمكَّن منه شاعرنا ، فأكثرَ من إيراد أسماء الناس والأماكن ، دون أن يحس القارئ بنتوء في المعنى .
من أسماء الناس : آمنة ، حليمة ، كعب ، حسان ، …
حينما تحدث عن مرضعته حليمة السعدية ، والشرف الذي حظيت به :
مَاذَا يُقَالُ؟! وِذِي (حَلِيمَةُ) وَالشَّذَا صِنْوَانِ قَدْ رَبَّاهُ يَا رَبَّاهُ!
ومنه أيضا:
لَا (كَعْبَ) يُسْعِفُنِي بِبُرْدَةِ شِعْرِهِ كَلَّا وَلَا (حَسَّانَ) فِي مَغْنَاهُ
وهنا يشير للشاعر كعب بن زهير الذي جاء مادحا ومعتذرا ، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وألبسه بردته ، فسميت قصيدته بالبردة ، ومنها قوله :
نبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول

ومن أسماء الأماكن : الحجاز، البقيع ،السلام ، …
حين قال :
وَسَكَبْتُ دَمْعِي فِي (بَقِيعِ) حِمَاهُ

 

 

امتاح شاعرنا كثيرا من قصص سيرته صلى الله عليه ، ومنها حادثة شق الصدر ، حين قال :
شَقَّتْ مَلَائِكَةُ الضِّيَاءِ فُؤَادَهُ لِيَرَى الْوُجُودُ مِنَ السَّنَاءِ مَدَاهُ
وقصة الجذع الذي حنَّ إليه :
مَاكُنْتُ إِلَّا (الْجِذْعَ) يَشْهَقُ جَوْفُهُ مَا كُنْتُ إِلَّا (الطَّيْرَ) فِي شَكْوَاهُ
وكذلك قصة الغيمة التي ظللته:
قَدْ سَارَ وَالْغَيْمَاتُ تَحْرُسُ خَطْوَهُ وَفُؤَادُ (آمِنَةَ) الْحَنَانِ رُوَاهُ
وكان ذكر هذه الحوادث في القصيدة طبيعيا غير متكلف

ثم تناول جانبا مهما ،وهو ضرورة التعرف على هدي النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهو هدي شعاره التسامح والمحبة والحنان والعطف والرحمة :
لَمْ يَعْرِفِ النَّاسُ الْحَنَانَ وَلَا دَرَوْا أَنَّ التَّسَامُحَ فِي الْحَيَاةِ هُدَاهُ

وأخيرا – وبعد كل هذا الثراء – تجدني أعجب من تساؤل الشاعر الذي يرى بيانه معطلا ، وقد أتى بهده الخريدة الرائعة في مدحه صلى الله عليه وسلم :
مَاذَا أَقُولُ وَذَا الْبَيَانُ مُعَطَّلٌ وَالصَّمْتُ يَطْحَنُ مُهْجَتِي بِرَحَاهُ
فكيف ببيانك إن لم يكن معطلا ؟!

أدعو الله أن يكون هذا النص شفيعا لك يوم القيامة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طارق يسن الطاهر
Tyaa67@gmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى