مقالات مجد الوطن

٢٦ روايتي: شرارة وبناتها حرائق!!

 

وعلى طبلية إفطار هذا المقر كنا نتناقش وكان أكثر ما أثار نقاشي هو تساؤلي عن كيفية إتمام العمران أو حتى البدء به وبيت مال الشعب شحيح؟ وعبر كاسات الشاي والارغفة والسمك المشوي أعطاني (أيوب) الفكرة المنتجة والتي أدارت علينا فيما بعد الأرباح الجزيلة، قال لي: “أنتم لديكم كنز ثمين كل يوم تطفوا قواربكم العميقة عليه وتغطسون فيه وتخرجون منه دون أن تستفيدون من خيراته وثرواته؟”
قلت له باستغراب:
– كنز!
رد عليَّ بردٍ واسع الاطلاع:
– نعم كنز عظيم لا حصر لنعمه وهباته.. واضح عليكم أنكم رجال ماهرون تجيدون الصيد في وقت وجيز، وأعتقد حتى في أوقات البرد والرياح الشديدة تفوزون بالأسماك وتعودون بقوارب محملة بالخير على الرغم من عنائكم، لاسيما عنائكم مع أدوات صيدكم البدائية القليلة، فلماذا لا تشترون غيرها وتصيدون كميات كبيرة من الأسماك وتصدرونها للبلدان التي لا بحار لها؟
سألته:
– كيف؟ وأين نخزنها ونحفظها؟ نحن أصلًا لا موارد دخل أخرى لنا وكل ما نصيده يكون قوت يومنا.
-:هناك بلدة أعرف أن أهلها يحبون الأكلات البحرية ويشتهونها لكن لا مصدر لهم غير استيرادها، وهذا الاستيراد غير منظم ويكون على فترات بعيدة فإذا عقدتم مع هذه البلدة شراكة ستتغير حياتكم للأبد وستنجحون نجاحًا منقطع النظير.
– ولمَ لا سنعقد معهم شراكة، ساعدنا وتفاوض لنا معهم.
– لا أستطيع.
– لماذا؟
-……….
– لماذا؟
اشاح بوجه ثم تأوه وقال:
– هذه بلدتي، وحاليًا أهلي يعتقدون أنني ميتًا وان ظهرت في حياتهم مرة أخرى فحتما سيقتلونني وحتى لو كنت ميتًا سيغتالوني من جديد.
– لماذا؟ ما الجرم الذي ارتكبته حتى استوجب قتلك؟
تمتم (المنصدم):
– ارتكب فضيحة أبو المصائب لهذا قرروا أهله هدر دمه.. أنا سبق وقلت إنه مجرمًا ولم يستمع إليَّ أحد.
نظر له (الحكيم) وطلب منه أن ينصت ولا يستعجل في حكمه، ثم قال: “كررت سؤالي عليه وأجابني بثقة واعتزاز بنفسه لم أفعل شيئًا بيد أنني مارست حقًا من حقوقي، عمومًا قصتي هذه يطول شرحها دعنا الآن منها وسأقصها لك بعد نجاح مشروع بلدتكم (اسماكو)، فقط أمهلني يومين أكتب فيها الخطة والاسماء والأدوات التي تنقصكم وتحتاجون إليها في تحقيق مشروعكم”. وقبل أن يستأذن (الحكيم) منهم وينصرف، قال لهم: “بالمناسبة، أني أدين ل(أيوب) ايضًا بالفضل في اختصار الطرق والوسائل وكيفية الوصول للمهندسين والبناين. على كل حال موعدنا غدًا حتى اسرد عليكم التكملة”.

ذكر (الحكيم) لمناقب (أيوب) هدأ من روع (المتوهم)، وضاق بها (المنصدم) ذرعًا. غادرا بعد أن فرغ (الحكيم) في ساعة متأخرة من الليل، قال المنصدم: “من المؤسف أن نظل كل هذا الوقت دون فائدة حتمًا سيأتي ملك الموت ويأخذنا قبل يجيب هذا العجوز المعروق الشاحب عما سألته عنه”، وكانا في طريقهما إلى منزلهما، فجأة استرعى انتباه (المنصدم) الضوء الذي ينبعث من أسفل باب (أم قناعة) فاتجه صوبه.. وإذ به يقول:
– أن السيدة أم قناعة تعرف كيف تمد نفسها بالكهرباء:وهذا تعلمته من خلال دراستها الفطرية المحنكة.
ضحك (المتوهم)، وقال له:
– يتهيأ لك.. إنه ضوء القمر.. ألهذا الحد سبب ضوئه صدمة كبيرة لك؟
– نعم صدمت للحد الذي كان فيه التناقض صارخًا، واستنكاره واجبًا، ولذا كان من الضروري معرفة كيف استطاع ضوء البدر في ليلة حالكة غير ليلته القمرية أن يتسلل سطح (أم قناعة) ويخترقه ثم يعبر السلالم حتى يخرج من تحت عقب الباب ويستقر كي يضيء:الطريق للمشاة ولنا!؟
بعد أن كتبت (قناعة) على كيبورد اللاب توب عدة أسطر، سمعت طرقًا على الباب بقوة، وعلى الفور استيقظت أمها، شعرت بالاضطراب، وقالت لها: “لماذا كل هذا الدق؟ من الذي سيأتينا في هذه الساعة؟!”، أدركت (قناعة) أن الصوت الصادر جعل الخوف يمارس سطوة على والدتها، لكنها لم تمكنه منها ولم تجعلها تخضع له ونفضت عنها هذا الأمر المتوهم، وقالت بصرامة وحزم: “دعيه لا شأن لنا به قد يكون هناك كارثة خلف هذا النقر، فمجاراته والسير وراء الفضول قد لا يكشف المجهول بل يورط الأنفس فيما لا يحمد عقباه، تجاهليه تمامًا ونامي”.
– أخشى أن يكون مسكينًا أو ملهوفا.
– وقد يكون شيطانًا مريدًا، انسي هذه الفكرة بالذات، لا يمكن أن يكون الطارق مستضغفًا، أنا متأكدة من ذلك.
لم تلحق أن تضع والدتها رأسها على الوسادة حتى عادت النقرات صارخة متكاثرة، ساقت (قناعة) سوقًا إلى شال بني غامق اللون التقطته بسرعة من على سرير حديدي وتلثمت به، ثم طلت برأس متدلية من على سور السطح وردت بغضب:
– من؟
– أنا
– من أنت؟
– أنا المنصدم.
– أهذا أنت؟
– نعم.. ولماذا أنتِ مغطية رأسكِ حتى أصبحت مثل عود الكبريت؟
– عود كبريت يولع فيك.. الله اكبر من عينيك اللتين ترى في الظلام الدامس يا بومة.
قالت أم قناعة لها:
– مع من تتشاجرين؟
التفت قناعة صوبها، وقالت لها:
– مع الشاكوش هذا المزعج ذو الصوت الناعق الذي لا يدع أحدًا يرتاح في هدوء.
أدارت (قناعة) رأسها ثم صرخت عليه:
– ماذا تريد؟
– أسأل عن الكهرباء.
– وهل تظن أن بيتنا مقر شركتها أم أن هناك من قال لك أنني موظفة أعمل فيها؟
– لا هذا ولا تلك.
– إذن، لماذا أكرمتنا بحضورك؟
– لقد لاحظت الضوء المنتشر من داركم.
رفعت قناعة فانوسًا صغيرًا، وضعته على حافة السور، وردت عليه:
– هذه أنوار الفوانيس اللافحة اشعلتها كي تساعدني على المذاكرة، وهذا واحد منها:
قال (المتوهم):
– لماذا يا ابنتي؟
– من أنت؟
– أنا عمك المتوهم.
-الكهرباء مقطوعة عنا.
– كأني بها في الحي تعمل.
– من فضلك يا عم (المتوهم) أنظر إلى عدادنا الكهربائي هل هو يعمل أم به عطل؟
وقبل أن يطأطأ (المتوهم) رأسه قال له (المنصدم):
– كيف تعمل في الحي وهي مفصولة!؟
كان رد (المتوهم) عليه بإشارة من أصبعه السبابة إلى لمبة عمود كهرباء الحي المضيئة، ثم تحرك باتجاه العداد، فحصه فإذ به يقول لها:
– أن مفتاحه مغلق.
– أرجوك افتحه.. فتح الله صدر وكسر يد وحرق وجه من اقفله.
قال لها (المنصدم):
– ولماذا أنتِ لم تشيكين على عدادكم؟
– وهل تريديني أن أخرج في مثل هذا الوقت بين الواحدة والثانية والنصف كي يأكلني ذئبًا أو يفزعني وحشًا ويذهب لبي، ويقع كل اللؤم عليَّ، لا.. لا.. لا أحد يريد أن يجن أو يهلك، لاسيما إذا كان عليه اختبار في صباح الغد.
قال لها (المتوهم):
– لقد شغلته لكِ.. أدخلي وأكملي استذكارك.
– شكرًا لك يا عم المتوهم.
قال لها (المنصدم):
– مع السلامة قنوعة.
مطت قناعة بوزها ضاغطة على أنفها مقلدة صوته:
– مع السلامة قنوعة.

تحرك (المتوهم) و(المنصدم) وهما يضحكان على ردة فعلها، وفي الطريق كان هناك ما يكفي من الأقاويل القاطعة التي تجردت من أنصاف الحلول، بعضها يحكى باعتزاز وبعضها بتظلم وشكوى.
كان (المنصدم) يشعر بالسعادة إذا استفز (قناعة) فردود أفعالها تعيد له ذكرى زواجه، وتذكره ببدايته فيميل قلبه كل الميل لها، وكان (المتوهم) دومًا يصرفه عن هذا التفكير العاطفي الجنوني ويذكره إنها طفلة صغيرة لا داعي لهذا الاستفزاز ولا إلى شعوره، وهو يبرر له انه صوت الإحساس الذي يسمعه داخله ثم يؤكد له إنه لم يكن يريد أن ينتمي إلى هذا الفكر يومًا لكن القلب وما يهوى وبعلو صوته أخذ يدندن ويغني:
يا ريت أنا أقدر اختار
ولا كنت أعيش بين جنة ونار
نهاري ليل وليلي نهار
اهل الهوى وصفوا لي دواه
لقيت دواه زود في أساه
اهو ده اللي جرى
وانا ما اعرفش
ما اعرفش انا

استمر هكذا إلى أن وصلا عتبة دار (المتوهم)، وقبل أن يدلف (المتوهم) بيته، وقف متفرسًا في وجه (المنصدم) الذي يضم أحدث لقطات الغرام والتأثر العاطفي وقال له: “عندما تعرف أخبرني.. تمسي على خير”.

الروح/ صفية باسودان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى