مقالات مجد الوطن

جزء الأُسبوع من روايتي: شرارة وبناتها حرائق!!

 

 

الروح/ صفية باسودان – جازان

 

ضحكت، حدقت بي العيون، فشعرت لوهلةٍ بالحرج وأنني أخطأت التصرف الطبيعي، ربّما يكون الضحك من الصفات الفطرية التي جبلنا عليها، ربمّا هي من عرفتنا التربية التي عاقبنا عليها المجتمع.

شدت الأعصاب، بينما كانت (قناعة) تحاول بعث ذكرى خاصة من مقبرة الذكريات السوداوية.

تأملت (قناعة) تلك (الراقية) فإذا هي كهلة صفراء اللون.. قد تجاوزت العقد السادس. ظل دماغ (قناعة) يحاول في تلك الأمسية تذكرها وحواسها بجميع وظائفها مشغولة معه.. تتأملها وتبحث في ذاكرتها عن مرآها؟ وشوشتني: “كأن بي أعرفها، متى وأين رأيتها يا ترى؟”.. جبين صغير، عينان غائرتان بعض الشيء، تحيطها الهالات السوداء، وأنف دقيق مستقيم كل هذا معروف لديها ولكن لم تتذكر اسمها.

قطع عليها تأملاتها تلك انخراط بعض السيدات وصوت (الراقية) الهادئ، حينما فاجأتها بعد سؤالها عن حالها وحال والدتها الصحية:

– يبدو أن لديك مشاكل.. خذي.. خذي أشربي!

– عفواً! ماذا تق…

أخذت (المقرئية) قنينة ماء بلاستيكية من مجموعة كانت معدة على الطاولة، ثم فتحتها وتمتمت فيها. ناولت (قناعة) وشدت على يدها تحثها على الشرب دون أن تنتظر أي رد منها.

تهافت الأصوات النسائية عليها “هيا أشربي.. هيا هيا.. أشربي يا ابنتي.. إنه في مصلحتك.. إنه في صالحك”. قاومت (قناعة) رغبتهن بإصرار واعتذرت آسفة على مجيئها في هذا الوقت الغير مناسب للزيارات العادية وبينت لهن انها ليست مريضة بل زائرة ارسلتها أمها لهذه الزيارة، وأن المرض ليس جرمًا نخاف عقابه أو عيبًا نستره، لكن الادعاء بالمرض حرام والافتراء على أي كائن من كان حرام.

كانت تنجح في اقناعهن قبل أن يقتحمن أسوارها فتستسلم وتحتل، فلحظة واحدة تكلف عمرًا كاملًا مستغلًا معاقًا بدايته ضعف ولين ونهايته سقوط وخرس.

قالت (الراقية) ببرود مقنع:

– يا ألهي إنه الخبيث الرجيم يتحدث.. لبق.. سليط.. جذبها إليه بخبرته لكنني سأخرجه منها وأقتلعها من عزلتها وانطوائها.

تحت وطأة كلامها المستفز واسلوبها الضاغط وفي توقيت لم يحسبه رقاص الساعة قامت الوطاء في دماغ (قناعة) بالتحفيز وردود الفعل، فأطلقت الغدد الكظرية هرمون التوتر، ارتعشت يديها واهتزت عضلاتها وكأنها عاجزة عن التحكم بهما، وفي لمحة أو دون منها ضمت اصابعها في صدر كل كف من كفيها، ضغطتهما بقوة وجعلتهما مثل قبضتي ملاكمًا محترفًا وأخذت تردد بصوت مرتفع: أستغفر الله العظيم.. استغفر الله العظيم.

رأيت (قناعة) وسط مجموعة من الألسن النسائية -الجومائية- مرة محلقة قاذفة ومرة أخرى راكبة موجة مستعرضة مهارتها عليها وهي غارقة!

تكالبت على (قناعة) وفجأة التصق لسان واحدة بأذنها كأنه لسان ضفدع التصق بورقة نباتية، كان لسان سيدة سمراء حين ترى من الوهلة الأولى تشبه بالضفدع بيد أن ثغرها صغير وعينيها ضيقتتين ناعسة، نهضت من مقعدها بتباطء واتكأ، كانت سمينة للحد الذي جعل أردافها تأخذ حيز غيرها وتصطك بالطاولة ساقية الماء.

قالت بإبتسامة: هل تسمحي لي؟

نهضت وفي ذات النهضة نهضت قناعة معي، فأعطيناها فسحة واسعة من المكان.

قالت السيدة ل(قناعة): أجلسي، أجلسي يا ابنتي فأنا لم أقترب إلا لأجلك..

جلست (قناعة) في نهاية السرير الخشبي.. ارجعت ظهرها إلى الواء مستندة على زاويته.

قالت السيدة الثأدة بحزن:

– الدنيا تحتاج منا الصبر والا خسرنا كل شيء وعلى رأس الأشياء صحتنا، كل شيء نستطيع التخلي عنه إلا العافية ليس من السهل فعل هذا معها، وعدم شربكِ للماء المقرئ سيتعارض مع جلسات العلاج التي ستجلسينها.. من أجل صحتكِ يا ابنتي كوني قوية ولا يغلبكِ أبليس وأعوانه.

أحست (قناعة) أن شيئًا ما ربط لسانها، فالتزمت الصمت، وشعرت بان لا أحد يصدقها فتسلق الأسى داخلها. أصغت (قناعة) لها بانزعاج تام، وللحظة واحدة عينيّ لم تنزل من عليها حتى التقت عينيّ بعينها فالشبه راودني عن بصري فقد جمع بين وجه هذه المرأة وبين وجه شخصية كانت متميزة في أن تنغص عليّ أي لحظة سعادة، سألتها بجدية:

– أتعرفين نجوى؟

وأشارت بذراعها الأيمن إلى السرير الآخر كأنها تمتر قطعة قماش وردت ببساطة:

– هذه نجوى.

صحت قائلة:

– هذه نجوى!.. نجوى ما بكِ تغطين وجهكِ عن النساء؟

لأكون صريحة فرحت في قرارة نفسي كلما كررت السؤال عليها، وأنا أعلم انها تتمنى انها لم تقابلني وهي على هذا الحال، فما الذي يمكنها قوله بعد الأذى الذي سببته لي.

وبعد إحراج شديد يناوره تردد.. زاد تعرقها الجاف وكشفت عن وجهها ثم أخذت ريقها بصعوبة، قالت أمها آمرة إياها: “هيا قومي وقبلي رأسها”.

نهضت رغم نفسها وقبلت هامة رأسي كرهًا وتكلمت بصوت خافت يشبه الهمس:

– كيف.. كيف حالك وكيف أهلك؟

– الحمد لله بخير..

قضم تصرفها نفس (قناعة) فقالت:

– أووووووه.. نحن في عزاء!

قلت قبل أن تسقط كلمات (الراقية) كالطوب الأحمر من قلاب ويتراكم بعضه فوق بعض على (قناعة) وتهرع ألسنة النسوة نجدة كي ترصصه وتصفه: حلّ الليل وأكتمل القمر بالسماء ونحن إلى الآن لم نعرض عليكِ سبب مجيئنا إليك. ناولتها الكيس واستأنفت: وهم في حالة استبدال التألف وتغيره بالحديث وقبل أن يكون الحمام رائع التحسين عثرت على هذا، وقد أمرتنا أمها أن نسلمكِ إياه فأنتِ تستطيعين فعل شيء حياله.

وهي مطأطأة الرأس منهمكة في فتح الكيس ردت عليَّ:

– بالتأكيد.. أطمئني فالحل موجود.

– وما هو؟

أخرجت ما بداخل الكيس ومن تحت عظمتي حاجبيها ارتفعت بؤرتي عينيها.. قليلًا وتصبح كعيني (اندرتيكر)، أجابت:

– حسد.. حسد.. سنفكه.. إنه معمول بدم حيض نجس.. سنحله في سطل ماء مقرئ مذابًا فيه سدرا.

 

[تحت الإصدار]

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى