مقالات مجد الوطن

لغتنا العربية في يومها العالمي

 

كل ظاهرة من الظواهر الإنسانية – حتى يُكتب لها الخلود- تحتاج إلى ما يدعم وجودها، ويؤكد بقاءها من خصائص ومميزات متعددة، تنفرد بها عن غيرها.

 

 

فاللغة -أية لغة- تعد كائنا حيا، يولد وينمو ويموت ، فكم من لغات اندثرت وماتت! لكن الله أراد للغة العربية غير ذلك، حينما قضى بإنزال القرآن الكريم بها، فالقرآن كُتب له الخلود بأمر الله” إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون” الحجر 9 ، وحفِظها الله بتكفله بحفظ القرآن.

 

 

بقيت اللغة العربية صامدة كل تلك القرون، وستظل كذلك، لعدة عوامل، أهمها وأقواها العامل الديني سابق الذكر.

 

إن الذي ملأ اللغات محاسنا

جعل الجمال وسره في الضاد

 

وهناك عوامل أخرى من داخل اللغة، تتمثل في مميزات وخصائص انفردت بها ، فقد تميزت العربية بقدرتها على التعريب ،واحتواء الألفاظ من اللغات الأخرى بشروط دقيقة معينة.

وفيها خاصية الترادف، والأضداد، والمشتركات اللفظية. وتتميز بظاهرة المجاز، والطباق، والجناس، والمقابلة والسجع، والتشبيه. وبفنون اللفظ والمعنى كالبلاغة، الفصاحة وما تحويه من محسنات ، أتناول هنا بعض هذه المميزات :

 

-الاشتقاق : ومعناه توليد كلمات مختلفة من جذر لغوي واحد ، ومثال لذلك:

الجذر اللغوي “ك.ت.ب” نأتي منه بالكلمات التالية: كتاب-مكتب-مكتوب-كاتب مكتبة ، كتبت وكتبها ..

-الترادف : وهو وجود كلمات كثيرة تشير إلى معنى واحد مثل : وسيم :جميل / قبيح :دميم … ؛ مع إيماننا بأنه لا يوجد ترادف حاد وتطابق تام بين المعاني ؛فكل كلمة تشير إلى معنى فيه زيادة عن المعنى الآخر ، ومنه كلمتا: “جلس ، قعد” بينهما ترادف ،وهما بمعنى واحد ، ولكن “جلس” تدل على أنها حدثت بعد اتكاء ، وقعد جاءت بعد وقوف ، فقد ورد في الحديث :” وكان متكئا فجلس”

 

 

تنفرد اللغة العربية بالحركات-التشكيل- التي تميزها عن غيرها، فالحركات تؤثر على المعاني، وتغيّر المقصود، وتنقله إلى مجال آخر، ومن ذلك : الجَنة وهي البستان “…جعلنا لأحدهما جنتين…” الكهف 32 ، والجُنة وهي الوقاية ” اتخذوا أيمانهم جُنة” المجادلة 16، والجِنة وهي الشياطين:” من الجنة والناس”الناس6

 

 

كما تتميز اللغة بتوسيع المعنى وتضييق المعنى ؛ لأن العرب كانوا يتحدثون العربية قبل الإسلام ، فجاء الإسلام وأبقى كلمات على ما هي عليه، ووسّع بعض المعاني، وضيَّق دلالات أخرى ، مثلا : الصلاة كانت تعنى الدعاء، فصارت تلك العبادة المخصوصة ، كذلك الجنة كانت تعنى البستان، فأصبحت تدل على الدار التي أعدها الله للمتقين.

 

 

كذلك تتميز اللغة بالثراء في الأسماء للمسمى الواحد مع اختلاف حالاته ، مثلا الطعام يختلف اسمه حسب المناسبة التي يقدم فيها ؛ فطعام الزواج وليمة، وطعام العزاء وضيمة ،وطعام الفراغ من البناء وكيرة …

كذلك تتميز اللغة بالاختصار في الأسماء فهي تجمع اسمين في لفظ واحد : مثل الجديدان هما الليل والنهار، الزهراوان :البقرة وآل عمران كما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم : “اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لأَصْحَابِهِ اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ…” والسبطان : الحسن والحسين رضي الله عنهما ، والبردان : الفجر والعصر ، فقد ورد في الحديث :” من صلى البردين دخل الجنة. متفق عليه

والثقلان هما الجن والإنس “سنفرغ لكم أيها الثقلان”الرحمن31

 

 

كما أن هناك كلمات في اللغة العربية تأتي بمعنيين متضادين ، وهو ما يسمى بالأضداد ،مثل الجون تعني الأبيض والأسود ، ومنه المولى تعني السيد والعبد ، وكلمة وراء تعني أمام وخلف “قيل ارجعوا وراءكم… ” الحديد 13أي خلفكم ، “من ورائه جهنم” إبراهيم 16 أي أمامه.

 

 

كما أن معنى الكلمة نفسها يختلف حسب اختلاف تركيبها مع كلمات أخرى ، مثلا كلمة “يد” معروفة لكن يختلف معناها حسب استخدامها ،مثلا قول الشاعر :

له أياد عليَّ سابغة

أُعَدُّ منها ولا أعددها

هنا يد بمعنى الفضل والنعمة.

و في العبارة: للحاكم يد على رعيته ، بمعنى قوة ، وغيرها كثير

 

 

رغم كل تلك المميزات تجد بعضنا يتشدق باستخدام كلمات من لغات أخرى في حديثه ، ويرى في ذلك إحساسا بالتقدم ، ولو علم أن في اللغة من الكلمات ذات الجمال، والمفردات ذات الجلال، والعبارات ذات الإيحاء ،والجمل ذات الظلال ، ولو علم أن اللغة العربية من أغزر اللغات من حيث المادة اللغوية، فعلى سبيل المثال يحوي معجم لسان العرب لابن منظور من القرن الثالث عشر أكثر من 80 ألف مادة، بينما في اللغة الإنجليزية فإن قاموس صموئيل جونسون – وهو من أوائل الذين وضعوا قاموساً إنجليزياً من القرن الثامن عشر -يحتوي على 42 ألف كلمة.، لو علم كل ذلك لأقبل عليها بزهو وفخر .

 

 

يرى بعضهم أن اللغة العربية غير قادرة على احتواء المستجدات من مخترعات وغيرها ،تجد الرد في هذين البيتين :

وسعت كتاب الله لفظا وغـــــــــــاية

وما ضقت عن آي به وعظات

فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة

وتنسيق أســــــــماء لمخترعــــات

 

 

تعد اللغة العربية من أقدم اللغات السامية في العالم، ويتحدث بها أكثر من 422 مليون نسمة حول العالم كلغة أم، إضافة إلى بعض المسلمين غير العرب الذين يتحدثون بها كلغة ثانية ، وهي من بين اللغات الأربع الأكثر استخداما في الإنترنت.

 

 

واللغة العربية من اللغات السامية التي شهدت تطورًا كبيرًا ،وتغيرًا في مراحلها الداخلية، وللقرآن فضل عظيم على اللغة العربية ؛حيث بسببه أصبحت هذه اللغة الفرع الوحيد من اللغات السامية الذي حافظ على توهجه وعالميته، في حين اندثرت معظم اللغات السامية، وما بقي منها عدا لغات محلية ذات نطاق ضيق ، مثل: العبرية والأمهرية لغة أهل الحبشة .

 

في مقارنة بين عدد كلمات أربع لغات حية نجد اللغة العربية تتفوق وتنفرد دون منافسة :

اللغة العربية أكثر من 12 مليون كلمة ، الإنجليزية 600 ألف كلمة، الفرنسية 150 ألف كلمة، الروسية 130 ألف كلمة.

 

 

وسترى عجبا لو علمت أن في العربية للأسد زهاء خمس مئة اسم، كما ذكر ابن خالويه، منها ليث وغضنفر وهزبر وأسامة …

وللسيف قرابة ثلاث مئة اسم منها مهند وحسام وفيصل …

 

 

قامت الأمم المتحدة بمبادرة من اليونسكو بتخصيص يوم 18 ديسمبر من كل عام للاحتفاء باليوم العالمي للغة العربية.

يرى بعض المهتمين وبعض الغيورين على اللغة أن تخصيص يوم للاحتفاء بها غير منطقي، ويعدونه اختزالا لأهمية اللغة ؛لأننا نحتفي بها كل يوم، ولكن لو وسعوا دائرة نظرتهم ،ومدوا إطار تفكيرهم، لعلموا أن تخصيص يوم لا يلغي الاحتفاء الدائم المستمر؛ إنما يعني تذكيرا للناشئة في المدارس بأهمية اللغة العربية، واعترافا ضمنيا من غير العرب بأهمية لغة العرب، وحثا على الالتفات لإمكانات اللغة وقدراتها وميزاتها وخصائصها ، تخصيص يوم للاحتفاء يعيد للغة بريقها الذي خفت بسبب تسرب اللغات الأخرى إلى الألسن ،و يُرجع للغة بهاءها الذي بهت بفعل ضعف أبنائها في معرفتها ، فكل عام ولغتنا العربية بخير.

ـــــــــــــــــــــــ

*طارق يسن الطاهر*

Tyaa67@gmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى