الرياض سامية الصالح
الأربعاء 30 ديسمبر 2020: كان يوماً رائعاً الذي قضيناه بين الزوايا الجديدة من المدينة العتيقة في مدينة ينبع البحر… هذا كتاب تاريخ، ونحن نمشي بين صفحاته، ونجلس أحياناً مع أقداح قهوة.
تمت إعادة كتابة التاريخ، ليس الحبر على الحبر، بل الحجر على الحجر، تغليف التاريخ بلمسة عصرية، مع الحفاظ على روح المكان الممتد عمرها أكثر من أربعمائة سنة، له عروق تاريخ متصلة بأسواق شبه الجزيرة العربية وأفريقيا وأغصان عصرية ترفرف عليها الأسر المنتجة، وصناعة السياحة.
استعاد بحر ينبع جاره العتيق ، سوق الليل ، فالعلاقة بين الموانئ و الأسواق لا يمكن فصلها ، تم إعادة تصميم السوق معماريا كما اعتاد البحر على رؤيته بذات الروح العتيقة، وبأبواب الخشب ذات الصرير، و”التلكك” عند الإغلاق. لقد تم الاستناد إلى ذاكرة كبار السن، وبقايا الخشب في المكان؛ من أجل استرجاع التفاصيل الدقيقة للسوق القديمة.
في المدن العتيقة يجب عدم الاستعجال؛ فكل شيء يستحق التأمل، بما في ذلك التجاعيد على وجوه كبار الباعة، أو على أيادي سيدات متقدمات في العمر يمددن لك “الفكة” الباقية من دراهم قيمة مشترياتك؛ فالجميع ههنا يؤمن بأن الذي أعاد هذا السوق من “الأنقاض” إلى الحياة، سيرزقهم قوتهم، وصحتهم، ونعمة اليوم العادي.
يتوافق الطقس العام في البلدات التاريخية (ينبع، وجدة، وغيرهما) مع مزاج رحلة عائلية لنصف يوم على الأقل، مقروناً بوجبة غداء أو عشاء في أحد المطاعم البالغ عمر غالبيتها سبعين عاماً، بينما عدم السماح للسيارات بالدخول يعطي راحة بال على سلامة الأطفال.
كانت إعادة بناء ينبع التاريخية أكبر بكثير من مجرد رسومات هندسية، وميزانية مالية عالية، بل هو نوع من إعادة بناء موروث أجداد، وزرعه في وعي الأجيال، وتحويل الصخر إلى بنك ذاكرة (يو أس بي) يحفظ ملفات التاريخ من التلف، وأيضا إعادة فتح نوافذ رزق كانت موجودة ههنا؛ كانت تربط الأجداد بالأرزاق القادمة من السماء؛ فورث الأحفاد عن أجدادهم، وتدفقت الأرزاق والدعاء مجدداً.
عاشت الأسواق العتيقة مهامها بصفتها أكثر من مجرد مقايضة وصفقات تجارية، كانت -كما يقول لك الآن سوق السور في ينبع (ينبع التاريخية)- تبيع بالمجان أرغفة الحكمة، والألفة، والمحبة، والتعارف، والتكاتف؛ لذلك عندما تتواجد في سوق عتيق لا تستعجل الرحيل، ولا تستعجل الشراء، وعندها سوف تجد بضائع مجانية من تجارب الصبر والأمل.
تحقق “ينبع التاريخية “وقتها القياسي عند اقتران المساء مع مواسم الشتاء؛ فمجاورته للبحر (بينهما مسافة عشرات الأمتار فقط) تجعل الليل حاضناً لنسمات برد معتدل، ولسعة شتاء غير قارص، وبعض الارتعاش الخفيف، وكأس شاي بالحليب الممزوج مع لمسة زنجبيل يكفي لإزاحة الشعور بالبرد، ثم بقية الوقت للتأمل إذا كنت مُنفرداً أو للسمر إذا كنت مُصطحباً.
##انتهى##