مقالات مجد الوطن

*وقفات مع خطبة الوداع*

 

 

 

خطبة الوداع هي تلك الخطبة التي ألقاها النبي صلى الله عليه وسلم في عرفة على الحجاج ، في التاسع من ذي الحجة في العام العاشر للهجرة ،وقد كانت حجته الوحيدة صلى الله عليه وسلم .

 

 

سميت خطبة الوداع؛ لأنها الخطبة الحاشدة الأخيرة له صلى الله عليه وسلم في عدد كهذا من المسلمين، ودّع فيها المسلمين ، و ليست لأنها آخر خطبة له ، فقد تلتْها خطب ،ومنها خطبته في مرض موته.

 

 

هذه الخطبة ينبغي للمسلمين حفظها ،والعمل بمضمونها ؛لما احتوته من أخلاق سامية ، وقواعد راسخة ، وما تضمنته من معالم ترسم الطريق للمسلم .

 

 

يبدو في الخطبة إشفاق القائد على رعيته ، مخافة أن يتركهم بدون توجيهات ، تتقاذفهم الأهواء ، فقال : لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا” وقد كان ، فقد توفي صلى الله عليه وسلم بعدها بأشهر معدودة

 

 

كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب ،وكان ربيعة بن أمية -رضي الله عنه -في مهمة تبليغ الناس وإسماعهم ، وكان عددهم يزيد عن مئة ألف.

 

 

تناولت الخطبة عدة موضوعات منها:

الوصية بتقوى الله

الوصية بالنساء

أداء الأمانة

حرمة الدماء

ترك أخلاق الجاهلية السيئة

الدية

بيان الأشهر الحرم

الميراث

وغيرها من الموضوعات

 

 

 

هذه الخطبة اشتملت على أخلاق القائد ،وصفات الزعيم حقا ،فعندما يأمر المسؤول أتباعه بشيء ينبغي عليه البدء بنفسه، فلا تنهاهم عن فعل وتأتيه، ولا تأمرهم بأمر وتتركه ، فكيف ينقادون إليك ، وأنت القيّم عليهم ، وتخالف ما تقول؟! فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الربا ، وبدأ بنفسه حين قال : وأول ربا أضعه ربا عمي العباس.

 

 

لم يرم كل أعمال الجاهلية في مزبلة التاريخ، وإنما أخذ منها الحسن وترك القبيح ، حينما قال : إن مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية ” السدانة هي حماية البيت الحرام ، والسقاية هي سقيا الحجاج.، هكذا القائد المصلح يبني على ما بدأ به مَن كان قبله ، ولا ينسف كل شيء ،حتى لو كان جيدا.

 

 

تحدث النبي صلى الله عليه وسلم عن النساء ،وأوصى بهن خيرا ، وبيّن دورهن في حياة المسلم ونهضة الأمة ، وحدد واجباتهن ،وذكر حقوقهن .

 

 

كان النبي صلى الله عليه وسلم دقيقا في اختيار عباراته وألفاظه ، فهناك عبارات قد يراها المتعجلون إطنابا لا فائدة منه ، ولكن عند التمحيص تجد أنها مهمة جدا ، مثلا قول النبي صلى الله عليه وسلم –عند بيان الأشهر الحرم : “رجب الذي بين جمادى وشعبان” كل الناس قديما وحديثا يعرفون أن شهر رجب يقع بين شهري جمادى وشعبان ، لكن هذا التحديد كان مهما جدا ؛ لأن الجاهليين كانوا يتلاعبون بالأشهر الحرم ،ويحركونها كما يشاؤون، لو ظهر لهم أن يحاربوا في شهر من الأشهر الحرم يسمون الشهر بغير اسمه حتى يُحلوا لأنفسهم الحرب؛ لذا كانت دقة النبي صلى الله عليه وسلم في تحديد موضع رجب بين جمادى وشعبان.

 

 

بيّن النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين أنهم من أصل واحد ،وأب واحد ، فينبغي أن يكونوا إخوة ، ونهاهم عن أن يرجعوا بعده كفارا ،يضرب بعضهم رقاب بعض.

ثم حذر من الشيطان ، وأوضح كيف تكون وسوسته ،وهمزه ،وأمر المسلمين بعدم منحه الفرصة للتحريش بينهم.

 

 

لو دلفنا إلى الجانب البلاغي في الخطبة نجد عجبا ؛ ولا عجب، فرسولنا صلى الله عليه وسلم أفصح الناس ، وأوتي جوامع الكلم. وهنا لا أدّعي الإحاطة بما ورد من أساليب بلاغية في الخطبة ، ولكن حسبي من القلادة ما أحاط بالعنق ،من باب التمثيل فقط أتناول ما يلي:

 

بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بيانه للناس بالنداء: أيها الناس، وهذا يدل على لفت الانتباه، وكان يكررها عند بداية كل محور من محاور خطبته ؛إذ لا يحسن أن يبدأ المتحدث كلامه ، ومَن يحدثهم غير منتبهين، ثم زاد على النداء –حرصا وتأكيدا- بالأمر في قوله: اسمعوا مني .

 

 

تكرر في الخطبة قوله صلى الله عليه وسلم : ألا هل بلغت، اللهم فاشهد ، كانت تأتي عقب كل محور من محاور خطبته ؛ ليقيم الحجة على المسلمين أنه بلّغ الأمانة وأدّى الرسالة ، وتكون هذه العبارة بمثابة خاتمة جزئية، ينتقل بعدها لمحور آخر .

 

 

وكانت الخاتمة النهائية هي قوله: فليبلّغ الشاهدُ الغائبَ ؛ حرصًا منه صلى الله عليه وسلم على توصيل تلك القواعد الإسلامية التي تضمنتها الخطبة لجميع المسلمين في أي مكان كانوا .

 

 

يكثر في الخطبة استخدام الحرف “إنّ” الذي يفيد معنى التوكيد ، وذلك لإعطاء الكلام الذي يليه قيمته الحقيقية ؛ ويتناسب ذلك مع مضمون الخطبة التي ترسم قواعد وتحدد قوانين.

 

وقد تأتي “إنّ” متصلة بـ”ما” لتتحول إلى معنى القصر ، ومن ذلك : إنما المؤمنون إخوة”

ويأتي أحيانا بالتوكيد مع “قد” ، وقد بلغت

كذلك التشبيه في قوله : كحرمة يومكم هذا …

والتكرار يوجد في الخطبة بكثرة ، ويأتي التكرار للتأكيد وتقرير المعنى في ذهن السامع. ومنه : ألا هل بلغت … أيها الناس … هذا … إنّ …

 

 

ومن الجماليات البلاغية حذف المفعول به ، وقد يحذف المفعول به للعلم به ،ومن ذلك قوله : بلغت..” هنا بلّغ فعل ، والتاء فاعل، لكن حُذف المفعول به – وتقديره الناس- للعلم به ، وهذا عين البلاغة التي تقول إحدى قواعدها: حذف ما يُعلم جائز.

 

 

كما استخدم صلى الله عليه وسلم أسلوب التقديم والتأخير ، ومن ذلك : لكم رؤوس أموالكم ، فالترتيب الطبيعي : رؤوس أموالكم لكم ، والفائدة البلاغية هنا من تقديم الخبر على المبتدأ هي الاختصاص.

والجناس الناقص بين “تَظلمون ” و” تُظلمون”

وغير ذلك كثير مما تضمنته الخطبة من جوانب بلاغية

 

 

أخيرا نقول :لقد رسمت خطبة الوداع خارطة طريق للعلاقة بين المسلم وربه ، وبين المسلم وأخيه المسلم ، لا يضره شيء طالما التزم بها. جاءت تلك الخارطة مرتدية ثوبا بلاغيا قشيبا.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*طارق يسن الطاهر*

*Tyaa67@gmail.com*

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى