عمر شيخ – مكة المكرمة .
الحمد للـه، جعلنا أمَّةً واحدةً وأسبغ علينا من وافِر آلائه عطاءً وألطافًا، وأوجب علينا التآخيَ اعتصامًا وائتلافًا، وحرَّم الفرقة بينَنا تنازعًا واختلافًا، وأصلِّي وأسلِّم على نبيِّنا محمدٍ عبدالله ورسوله خيرِ مَنْ ألَّفَ الفُرَقاءَ إيلافًا، صَلَّى الله وبَارك عليه، وعلى آله وصحبه خيار هذه الأمَّة خلَفًا وأسلافًا، والتابعين ومن تبعهم بإحسان يرجو من اللـه قربًا وازدِلافًا، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإنَّ شريعتَنا الغرَّاء قصَدَت إلى الألفة والوفاق، ونأَتْ عن مسالك التنازع والافتراق، ونادَتْ بالمحبة والإخاء، وحضَّت على التآخي والتلاحم، سيَّما بين أهل الحق، أهل الوطن الواحد، والمنهج الواحد.
والكتابُ والسنَّة زاخران بالبراهين المشرقة على تلك الصفات العابقة، بكل معاني الغايات السامقة، يقول ـ تعـالى ـ: ((وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ الله جميعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ)) [آل عمران: 103]، وقال سبحانه: ((أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)) [الشورى:13].
ومن مشكاة النُّبوة وإشراقاتها قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ مِنْ أَحبِّكُمْ إِليَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَـجْلِسًا يَومَ القِيَامَةِ: أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا، المُوطَّؤونَ أَكْنَافًا، الَّذِينَ يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ» ومن ثَمَّ فإنَّ الوِحدة الدِّينية والوطنية تُعدُّ من الضروراتِ المحكمات، والأصولِ المسلَّمات، كما هي من أُسس الأمن والاطمئنان، ودعائمِ الحضارة والعمران، بل هي معراجٌ لبلوغ مرضاة الدَّيان.
معشر القرَّاء الأكارم: إنَّ ما ننعم به اليوم من الأمن والاستقرار، والرَّخاء والتقدُّم والازدهار، لَهُو من فضل الله أولاً، ثم ممَّا مَنَّ الله به علينا من التوحيد والتلاحم، والاجتماع والتراحم بين أبناء المملكة السعيدة، والتوافق والتآلف بين الشعب والقيادة الرشيدة؛ حيث أذِن الله تعالى لهذه البلاد بالاجتماع بعد الافتراق،
والتوحيد بعد الشقاق على يد الملك المؤسِّس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود – تغمَّده الله بواسع رحماته وأنزل على قبره شآبيب الرضوان والمغفرة –، فنعِمَت البلاد والعباد بالخير والبركة والرَّخاء، وبهذه الوحدة أقامت المملكة أصلاً مكيناً من أصول الدين، وأقرَّت أعينَ الموحدين.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: “فإنَّ الاعتصام بالجماعة والائتلاف من أصول الدين”.
ويقول العلاّمة ابن القيم –رحمه الله-: “ولزومُ جماعتهم هذا أيضًا مما يطهِّر القلب من الغِلِّ والغش؛ فإنَّ صاحبه للزومه جماعة المسلمين يحبُّ لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لها، ويسوؤه ما يسؤوهم ويسرُّه ما يسرهم”.
فَلْنَلْتف حول الوشيجة الدينية، والآصرة الوطنية التي لا تُشَاد ولا تَسْتَقِرّ، إلا على أصول وَحْدتنا الإسلامية.
وبكلِّ الإعزاز والفخر -والحمد لله والشكر- نتذكر أنه في مثل هذا اليوم كان الانطلاق إلى توحيد البلاد الغالية، وتوحيد القلوب المؤمنة، وتوحيد الصفوف قوةً وعزماً.
أيها الأحبة الأماجد: لقد عمِل الملك المؤسس -رحمه الله وطيَّب ثراه- على توحيد الكلمة ورَأبِ الصَّدع بين مختلف الأفراد والجماعات والقبائل، وقد أبان عن منهجه في الوحدة والاعتصام بقوله: “أنا مسلم وأحبُّ جمع الكلمة وتوحيد الصف، وليس هناك ما هو أحبُّ إليَّ من تحقيق الوحدة”، ثم أردَفَ أقوالَه بالأفعال ونِعِمَّا هي:
وأينَع السعيُ أمجادًا مؤثلة *** ودولة ساعدها الشرع والسُّمُرُ
فَلْنلْهجِ اليوم بالشكرى يؤرِّجها *** حُبٌّ وفخرٌ وعهدٌ زاهرٌ خَضِرُ
هذا، وقد سار على نهجه القويم أبناؤه البررة من الملوك السابقين في عقودٍ وضَّاءة متلألئة، ونجابةٍ شمَّاء كريمة.
بِيضُ الوجوه كريمةٌ أحسابهم *** شُمُّ الأُنوف من الطِّراز الأول
فهم أرومةٌ مباركة، وذؤابةٌ ساميةٌ سامقة من العقود الدُّرية أصحاب المناقب العلية والمكرمات النَّدية إلى هذا العهد الممرع الزاهر الخصيب الباهر عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود – حفظه الله رعاه- صاحب الهمَّة العالية، والنفس المتفانية، والقرارات العظيمة الحازمة والمشروعات العملاقة الجسيمة؛ حيث تضاعف الخير والنَّماء والهناء على يديه، وسمو ولي عهده الأمين، فالدار عامرة، والأرض زاهرة، والسُّبل باهرة، والأمن منتشر، والخير مدرار.
كما انبلجَتْ في عهده الزاهر الميمون رُؤًى ومبادرات موفَّقة، قدَّمتها هذه البلاد المباركة، في مختلف قضايا الأمة الإسلامية بما يحقق وحدةَ الصف واجتماع الكلمة، يأتي في الطليعة منها: عاصفةُ الحزم، ورعدُ الشمال، والتحالفُ الإسلامي العسكري، وقد توَّجَتْها برؤية (2030)، وإطلاق برنامج (خدمة ضيوف الرحمن).
أحبَّتَنا الأماثل: إنَّ الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النَّبوي قد آلَتْ على نَفسِها، وبِجَميع مُنْشآتِها وإدَارَاتِها امْتشاقَ هذه الرُؤية الأثيلة، مِشْعَلًا وضَّاءً في جميع شؤونها وقراراتها، وخِطَطِها ومَشاريعِها وبَرامِجِها؛ لذلك ساهمت في برنامج (خدمة ضيوف الرحمن)، وخرجَتْ بعددٍ من المبادرات التي تخدم أهدافه السامية وغاياته النبيلة، من أهمها: «تشكيل اللجنة العليا لمواكبة رؤية المملكة (2030)»، و «تشكيل مجلس جيل تحقيق الرؤية» بالرئاسة؛ وذلك لتحقيق تطلعات رؤية المملكة (2030)، والحرص على الاستفادة من أحدث السبل الإدارية والفنية.
وإطلاقُ استراتيجية الرئاسة (مشروع حرمين) ؛ لتلبية التوسُّع الهائل في عدد ضيوف الرحمن الذي ترنو إليه رؤية (2030) بعدد ثلاثين مليون زائرٍ سنوياً ؛ من أجل حُسنِ الوفادة للقاصدين ونشرِ الهداية للعالمين.
كما أطلقت برامج أخرى لخدمة ضيوف الرحمن ضمن (برنامج خدمة ضيوف الرحمن)، وتضمَّنت برامج توجيهية وتوعوية وخدمية وتقنية وإدارية وفنِّية وهندسية.
كذلك قامت بتفعيل دور المرأة في الحرمين الشريفين؛ مواكبة لرؤية المملكة (2030).
هذا، وقد حقَّقت الرئاسة العديد من الإنجازات، من أبرزها: قيام الرئاسة ممثَّلة في الإدارة العامة للتوجيه والإرشاد بخدمة (27.215.438) سبعة وعشرين مليوناً ومئتين وخمسةَ عشرَ ألفاً وأربعِ مئةٍ وثمانيةٍ وثلاثين مستفيداً من برامجها المتنوِّعة؛ نشراً لرسالة الحرمين العلمية والدعوية على ضوء المنهج الوسطي المعتدل الذي تنتهجه دولتنا المباركة – حرسها الله.
كما حصلت الرئاسة العامة وكذلك وكالتها للمسجد النبوي، على شهادة استحقاق الآيزو؛ لتطبيقهما كافة المعايير العالميـة في آلية العمل وتقديم الخدمات.
ومن الإنجازات أيضًا: القيام بعددٍ من الاتفاقيات والشراكات مع عدة جهات حكومية، مثل: توقيع اتفاقية بين الرئاسة وبين معهد الأمير خالد الفيصل للاعتدال بجامعة الملك عبدالعزيز، في مجال نشر ثقافة الاعتدال والوسطية، ومحاربة الإرهاب والتطرف والعنصرية في المجتمع، وكذلك قبول (25) طالبًا من منسوبي الرئاسة في برنامج (اعتدال) بمرحلة الماجستير.
وحازت الرئاسة في مجال الحوكمة الالكترونية ونظام مرصد الخدمات الحكومية (يسِّر) للتعاملات الالكترونية على نسبة (87.18)، وترتيب (18) من أصل (199) جهة حكومية.
كما تمَّت إعادة الهيكلة الإدارية بالرئاسة والوكالة، وإنشاء إدارات جديدة ؛ مواكبةً لرؤية (203).
وانطلاقًا من الحرص الشديد للرئاسة على تحقيق التميز في شتى مجالاتها، فقد أنشأت بتوفيق -الله تعالى- جائزةَ التميز بفروعها المتعددة؛ وفقًا لرؤية (2030).
ومن إنجازات الرئاسة أيضًا إسهامُها في تسخير التقنية لخدمة الحرمين الشريفين، فقامت بدراسة مشروع (وضع الاستراتيجية والخطة التنفيذية لتوظيف البحث العلمي وتطوير التقنية لخدمة الشعائر الإسلامية، وتيسير أدائها في الحرمين الشريفين) بالتعاقد مع معهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج والعمرة.
وأنجزت أيضًا (منصة طوِّر)، وهي بوَّابة الكترونية تسهل على موظفي الرئاسة جمع أفكارهم الإبداعية وتوثيقها.
كما قدَّمت الرئاسة برنامج قياس الرضا المطور عن الخدمات المقدَّمة بالمسجد الحرام، وبرنامجًا آخر باستخدام حساسات عالية الدقة لإحصاء المتواجدين في مواقع المسجد الحرام.
أيُّها الإخوة الأماثل: إنَّ ما نعيشه الآن في عهد خادم الحرمين الشـريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود -حفظه الله- وسمو وليِّ عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز –حفظه الله- من تقدُّمٍ وازدهار, وأمنٍ واستقرار, لهو أثرٌ عظيم من آثار السمع والطاعة, والتمسُّك بالوحدة والجماعة, تحت قيادةٍ حكيمةٍ رشيدة, تُصْلِح الدنيا بالدِّين, معتصمةً بحبل الله المتين.
كما أنَّ خدمةَ الحرمين الشريفين ورعايةَ قاصديهما تأتي في أولويات مهام القيادة الحكيمة، وقد نصَّت المادة الرابعة والعشرون في النِّظام الأساسي للحكم: “تُولي الدولةُ الحرمين الشريفين ورعايةَ قاصديهما كلَّ الاهتمام، وتسعى في تحقيق خدمة الحجاج والمعتمرين والزائرين وتقديم كافة الخدمات لهم”.
لذلك فإنَّ ما يشهده الحرمان الشـريفان في هذا العهد الزاهر من توسعات جبَّارة ومشـروعات عملاقة وتأتي في واسطة عقد جيدها مشـروعُ التوسعة الشمالية للمسجد الحرام، ومشـروعُ رفع الطاقة الاستيعابية للمطاف، ومشـروعُ توسعة المسعى، لهي من المفاخر العظيمة والمآثر الكريمة لهذه الدولة المباركة والقيادة المسددة.
ولقد كان من فضل الله على بلادنا والعالم الإسلامي أجمع ما تفضل به خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز –حفظه الله- من تدشين خمسة مشاريع وهي:(مبنى توسعة المسجد الحرام، وساحات التوسعة، وأنفاق المشاة، ومجمع الخدمات المركزية، ومشروع الطريق الدائري)، وأيضاً اعتماده -حفظه الله- التصميم المعدَّل لتوسعة المسجد النَّبوي.
وختامًا نسأل الله العليَّ القدير أن يجزي خادم الحرمين الشريفين خيرَ الجزاء كفاء ما قدَّم للإسلام والمسلمين، وما أولى للحرمين الشـريفين، وأن يمتِّع الإسلام والمسلمين بطول بقائه، وأن يُديم في سماء المجد ارتقاءه، ويسبغ عليه لباس الصحة والعافية، ويمدَّ في عمره وصالح أعماله، ويشدَّ أزره بولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز –حفظه الله-، وشكر الله لأميرنا الموفَّق خالد الفيصل بن عبدالعزيز مستشار خادم الحرمين الشـريفين وأمير منطقة مكة المكرمة، وصاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن سلمان أمير منطقة المدينة المنورة، وسمو نائبيهما الكريمين، وحفِظَ بلادنا بلاد الحرمين الشريفين – دُرَّة الأمصار وشامة الأقطار – من كلِّ سوء ومكروه، وزادها أَمْناً وإيماناً، وسلاماً واستقراراً ، وجعلها سخاءً رخاءً، وحفظ عليها عقيدتها وقيادتها وأمنَها ورخاءها، وسائر بلاد المسلمين، وأن يوفِّق رجال أمننا، وينصر جنودنا المرابطين؛ إنه سميع قريب مجيب، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيرا ً.