مقالات مجد الوطن

سوف.. سوف.. سوف.. إلى متى؟

 

 

بقلم/ حسين بن سعيد الحسنية

@h_alhasaneih

 

 

التحقت في دراستي الجامعية بأحد التخصصات الإدارية دون تخطيط مسبق ولا اختيار موفّق، وخلال الشهور الأولى من الدراسة شعرت بأننّي لا أستطيع المواصلة وعليّ أن أغيّر التخصص فوراً، وفي كل يوم وأنا أقول (سوف) أقدّم أوراق طلب النقل غداً، وطالما قلتها لكل من أعطاني من نصحه وبرّني بتوجيه من الأقارب والأصدقاء حتى ملّوا من سماعها، واستمريت على (سوف) تقريباً عام ونصف وأنا لم أغيّر ولم أستطع تجاوز تلك الفترة في الجامعة، وانتهى بيَ الأمر إلى خروجي من الجامعة نهائياً، ولن أُعلّق على ما انتابني من لوم على نفسي وحزن وغبن على تصرفي الغير مسؤول، بل على ما فعلته بي (سوف) من آثار لازلت أعيش تحت ثِقَلها حتى اليوم.

 

 

وفي قصة أخرى مع (سوف) لا يزال أحدهم ممن أعرف يسكن في بيته المستأجر بمبلغ مالي كبير يدفعه لصاحب البيت نهاية كل سنة ميلادية، رغم أنّه بدأ في بناء بيته قبل سبع سنوات تقريباً وحين أكمل البيت – عظماً – وَقَفَ لظروفه الماديّة حينها، لكنّه أطال الوقوف رغم تحسّن وضعه المادي ولم يعد لديه ذلك الحماس لإكمال بيته، بل أصبح هذا الأمر كالجبل المُطْبق على صدره، وشعر أنه في ورطة كبيرة، فلا هو أكمل بيته حتى ولو اقترض أو طلب المساعدة من أحد، ولا هو تخلّص من البيت نهائياً إما ببيعه أو تأجيره، والسبب في ذلك كلّه هي (سوف).

 

 

حتى في أيسر الأمور وأبسط المهام قد يؤجلها صاحبها مرة بعد مرة لكونها يسيرة في أصلها أو في إنجازها، علماً بأنّها قد تكون عظيمة في أثرها عليه، وفي مفعولها الإيجابي في حياته، فمثلاً يتخلّف على موعده عند الطبيب بحجّة أنّ عنده ما هو أهم، ويقول (سوف) أرتّب معه موعداً آخراً، وهكذا حتى يتفاقم مرضه ويزيد وجعه، وقد يفقد صحته وحينها يتمنّى أنّه لم يسوّف دقيقة واحدة، أو قد يتأخر في صلة رحم أو قريب ينوي بين الفترة والأخرى زيارته لكنّه كلّما قرّر ذلك أتته (سوف) بعذر جديد أو شغل آخر، حتى إذا ما سمع بموت ذلك الرحم أو القريب عض أصابع الندم على استجابته لـ (سوف) وقطيعته لرحمه وقريبه، أو قد يبدأ في ختم القرآن الكريم وما إن يتجاوز بضع صفحات إلّا وهو يقول (سوف) أكمل غداً، وجاء غد وبعد غد وانتهت السنة وهو لم يكمل حتى سورة البقرة، والأمثلة على تعاملاتنا مع (سوف) كثيرة جداً، ولسان الحال يقول: سوف.. سوف.. سوف.. إلى متى؟!

 

 

عليك أن تعلم أن انطلاقتك في عمل ما ثم إحجامك عن إتمامه أو تحديدك لهدف معيّن ثم وقوفك في نصف الطريق الموصل إليه، أو إقامتك لمشروع مخطط له من قبل، ثم تتنازل عنه لأيّ سبب من الأسباب، أو عزمك على تفعيل فكرة متميّزة لك ثم انسحابك مباشرة عند أول خطوة منك لتفعيلها، إنّما هي ممارسات تدل على عدم جدّيتك وضعف عزيمتك وبرودة حماسك وخوفك من الفشل والمواجهة، وطالما تسلّي نفسك وتعزّي حالك بـ (سوف) حتى غدت لك (سوف) مخرجاً عند السؤال، وشمّاعةً تعلّق عليها اخفاقاتك المتكررة وسقوطك المستمر.

 

 

أضف إلى ذلك أن من أعظم آثار (سوف) أنّها سبب في هدر الأوقات، فصاحبها يمضي في طريق ما لإنجاز مهمّة محدّدة حتى إذا ما أخذت منه وقتاً طويلاً عطفاً على أنه ثمين في الأصل جاءته (سوف) فأوقفته عن المسير، وعطّلته عن العمل، وسلبته ذلك الوقت الثمين من حياته.

 

 

ومن آثار (سوف) أيضاً أنّها تُعطي مؤشراً سلبيّاً على صاحبها يؤدي إلى عدم حبّه للاستفادة من المقدّرات والمعطيات التي يملكها ولا يرغب في توظيفها لإصلاح نفسه وأسرته ومجتمعه، ولا يهمّه الترقّي والتفوّق ولا تشغله معالي الأمور ونفائسها.

 

 

وحتى تنقذ نفسك من (سوف) تأمل في من حولك من الناجحين الذين استشعروا قيمة أنفسهم وحياتهم وما وهبهم الله من إمكانات وطاقات، فأنجزوا مهامهم وأكملوا مشاريعهم واستفادوا من أوقاتهم وواجهوا كل قصة تحدٍّ معهم بكل مثابرة وعزم وقوة، كلّ ذلك لمّا شطبوا مصطلح (سوف) من حياتهم فلا وقت لديهم للتأجيل ولا حياة أخرى لهم للتسويف، متسلّحين بسلاح الثقة بالله وحسن الظن به، والصبر وطول النفس وحب المبادرة، ومحاربة الملل والإحباط والقعود والتراخي والتسويف.

 

 

أنشد محمد الورّاق قائلاً:

 

والمرء مرتهنٌ بسوف وليتني

للهِ درُّ فتىً تدبَّرَ أمرهُ

 

وهلاكهُ في السوفَ والليتِ

فغدا وراح مبادرَ الفوتِ

 

 

وجاء في كتاب – قصر الأمل – ما قاله أبو هريرة رضي الله عنه: ” تعوّدوا الخير فإن الخير عادة، وإيّاكم وعادة السوّاف (أي من سوف)”.

 

 

من كتابي #وحي_الأمكنة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى