مقالات مجد الوطن

أنت عمري

 

الروح/ صفية باسودان

 

في ليلةٍ ممطرة سابق فؤادي الخطى.. هرولت قدمايَّ مسرعة .. حاملةً في يدِ دلوً، وفي الأخرى كأس فارغة. صعدت السلالم متفاوتة الصعود بين الدرجة والدرجتين حتى وصلت العلية، وقبل أول خطوة للخضوع شممت رائحة زكية استنشقتها، واستنشقتها أكثر وأكثر حتى توغلت بي، فشعرت براحة غمرتني، وسعادة احتوتني، ثم عانق جسدي المطر حد البلل الذي ارتويت منه!

بوحت له بعشقي الدفين الذي أُججت نيرانه ذكريات الأمس، وكيف كانت تتطاير شرارتها كأنها راقصة، ثم تعود؛ لتعزف بقسوةٍ على أوتارٍ رثة كان صدأها يقول لها: “أنه قفصي الصدري”. تكبرت وعصت حتى صعدت أدخنتها من مدفئة قلبي. ركضت في كل اتجاه وركض معي مطري، فكلما ازداد عدوي تكاثرت زخاته، وامتدت نحوي محاولة أن تخمد حريقاً أوقده اليوم شوقي، ولكن دون قصداً منها اتسع جرحي.

فجأة توقفت فتوقفت معها! تحسست ثيابي المبللة التي كانت تنفضها عظامي النخرة، وكأن البرد يسخر مني قالاً: أريد أن أجففها في هذه الرجفة! .

لم اعد أحتمل قسوة البرد، فلقد تمادى في ظلمه، وطغيانه. قررت الهبوط إلى الطابق السفلي؛ لتدفئة ذاتي، وقبل نزولي فكرتُ أن الملم شعري المنسدل على جبيني وظهري، وعند أول قبضة لخصلاته رفعت رأسي عالياً، وحدقت بها، تبسمت، وقلت: سبحان الله ما أروعكِ. كأنني لمحت طيف ابتسامة رقيقة.. هادئة، وصوت عذب يهمس لي: وأنا في الانتظار.. انتظار العشاق .!!!

ذهبت للأسفل، ثم عدت كي أقف في المنتصف بين يديها، ولم أفق من شعورٍ دثرني إلا وأنا في عناق ذراعيها. مددت جيدي، وأعليت رأسي، واستقبلتها ببراءة الطفولة التي مازالت تسكنني. خاطبتها بصمتٍ عن مكنون حب سكن قلبي، وأرسلت لها خطابات الهوى التي خطها رمشي، فأصابت سهام حرفي سديمها المهلهل الرمادي. سكنت، وارتدت حلتها السوداء المخططة بلون فضي.. أسدل الليل خيوطه على الكون كخصلات شعر مزج لونه مع لون البرد الأبيض، فشكلا لون فضي خرافي جمع بين البهاء والوهج.

وبعد ذلك طال الهدوء، وران الصمت، ومر الوقت، والقلب واضعاً يديه على قلبه؛ لانتظار ولادة جديدة للعمر وللمحبوب. تحققت الأمنية، وجئتُ لهذه الفسيحة هبة من رب العباد. ولد الحب، وقال كلمته:” أحبك ” دون أن ينطق منطق بل بابتسامة مبسم، غنى له: “هات عينك تسرح في دينتهم عنيه.. هات ايديك ترتاح للمستهم ايديه”.

قالت له: حبيبي بالأمس كنا سوياً، واليوم أنا والذكريات. بالأمس كنا نلعب.. نمرح.. نضحك.. نفرح.. نكتب.. نرسم.. نعشق وبعشقنا بدلنا الأتراح إلى أفراح.

صرخت في الفضاء باحثٍ عن الذكريات: أين أنتِ أيتها الذكريات؟

صرخت وصرخت، ثم زمجرت، وتكرر النداء: أين أنتِ؟ أتذكرين أجمل أيامكِ التي كانت في حضن هيامنا، ودفء مشاعرنا في قصة الحب الخالدة.. قصة حب عناق شمس وقمر.. أتذكرين؟!

أخيراً استجابت، وردت: نعم اذكر.. اذكر قصة العاشق والمعشوق، وبأدق التفاصيل. أذكر إنني كنتُ سوطاً؛ لجلد الذات، ومازلتُ كذلك لاسيما حين تتداعى الأحداث المؤلمة.. أذكر وأعي ذلك جيداً، وهل أنتِ تذكرين اليوم الذي قتلتني فيه، ودفنتِ جثتي في صحراءٍ بعيدة عن حياتك؟!

ـ اذكر أنني أبعدتكِ، ولكن لم أقتلكِ، والدليل وجودكِ الآن معي. لقد قمتُ بإخراجكِ مع اخوتكِ من حياتي، وقلت محذرة إياكم: أن عدتم مرة أخرى، فسأقتل ذاتي. أتعرفين لماذا أخرجتكم؟!

ـ لا أعرف لماذا فعلتِ ذلك؟، ولا علم لي بمن تقصدين أنهم أخوتي؟!

ـ أنتم ثلاثة لا أعترف بكم.. أنتِ والتاريخ والعمر.

ـ لا تعترفين بنا!

ـ نعم لا اعترف بكم. من بعد رحيل حبيبي عني رحيله الأبدي لا أريد معرفتكم، ولا أرغب بكم، والآن أخبريني ما الذي أتى بكِ؟!

ـ أريد أن أعرض عليكِ صفقة……………………..

ـ توقفي عن زحفكِ، ودعي عنكِ أسلوب المراوغة والدهاء، وقولي: ماذا تريدين مني؟

ـ أريد الهدنة.

ـ الهدنة؟! هه.. هدنة بيننا. كيف يكون ذلك؟!

ـ دعينا نحاول؛ لعلننا ننجح.

ـ لقد قلت لكِ مراراً وتكراراً لا أريدكِ، والآن أقول لكِ: لا أريدكِ، ولا أروم إلى هدنةٍ بيننا.

ـ لقد أصبحتِ مثله حتى صرتِ أنتِ هو.

ـ نعم صرت هو، ولا ينفع غير ذلك.

ـ ألم تشتاقي للحظات الغروب حين تأتين للقاء المحبوب؟!

ـ بلى.. اشتقت لها كثيراً.. شوقاً تجاوز الحدود.. تجاوز العقول في اللامعقول.

ـ عينيكِ كعينه مبحرة.. مبحرة نحو قلبه تطلقين الآهات المكبوتة، ولكنها تنبض بنبضه! .

ـ اسكتي .. اسكتي ..

ـ لن اسكت هذه أنا الذكرى التي دفنت، واندثرت.

ـ قلتُ اسكتي، وأنصتي الحب ليس ذكرى للذكرى.

ـ هل مازلتِ تعشقينه؟

ـ اجل عشقته، ومازلت أعشقه حتى نخاع النخاع.

ـ أيزوركِ طيفه في المنام؟

ـ يزورني في المنام، واليقظة!! ألم تصرحي قبل قليل أنني هو؟

ـ دعيني أعيش في وجدانك؛ لأعرف مدى حبكِ له.

ـ وما شأنكِ بحبي؟ هل تريدين أسر قلبي؟!

ـ لا .. ولكن ….

ـ انتظري! سوف أنصفكِ اليوم بقلبي.. هذا القلب الذي أردتِ حبسه في سجنك؛ لتستلذي بتعذيبه، وتمزيقه إلى أشلاء، وفتات تقتات منها الجروح حتى ترحل الروح.

ـ أنا !!

ـ نعم أنه أنتِ، ولكنني سأحدثكِ بأمرٍ عظيم، وهو أن حبنا قويًا لا يقتله جرحاً ضعيفاً، لذلك لا يموت في داخلي؛ لأنني أحيا به ومعه، فتعالي معنا؛ لتعيشي ما تفقديه.. أنا وحبي.. حــــــــــــــــبــــــــــــــي..يا ساكناً قلبي ..

ـ انتظري.. توقفي عن الهتاف.

ـ ما بكِ؟ ماذا تريدين مني؟

ـ أرجوكِ لا تستدعيه.

ـ لا استدعيه !!

ـ أجل لا تستدعيه.. لا تفعلي ذلك، فتدخلي في دائرةٍ مغلقة للزمن بدايتها هي نهايتها، وتعودي من حيث بدأتِ. اتركي الماضي، واتركيه.

ـ أغلقي فمك، واصمتي أيتها المعتوهة، وقبل أن تتحدثين أفهم ما سوف تقولين.

ـ آآ …………

ـ ماذا دهاكِ؟! آ آ.. انطقي.

ـ الحقيقة لقد خشيت أن ينكأ جرحكِ، وتعيشي بقية عمركِ فاقدة عقلك، أو تعيشي بلهيبٍ يكوي قلبك.

ـ هه …قلبي! لقد جعلتيني أضحك، لقد تهشم، وتمزقت أوردته، ولم يبق غير شريان للحياة.. شريان يضخ فيه قطرات البقاء.

ـ اذن حققي لي مطلبي.

ـ مطلب! مطلب ماذا؟

ـ اجعليني طيلة الدرب بقربك.

ـ لك ذلك.. اليوم لن أحرمكِ من تحقيق حلمك.. اليوم لن أوصد الباب في وجهكِ، وأقطع عليك دربكِ ..اليوم أنا والحب وأنتِ.

ـ شكراً لكِ ..لنْ أنسى حسن صنيعك.. لنْ أنسى اليوم أنني رفيقة حبك .

ـ حــــــــــــبــــــــــــــي ..هل أنت موجود؟! هل سمعتها؟

ـ أجل، وسمعتها بهمسك .

ـ لا ..لا عودي إلى الحاضر.. أفيقي .

ـ ما بكِ؟ ماذا أصابك؟ لماذا تشدينني بكلتا يديكِ؟!

ـ قلت: أفيقي. استيقظي من غيبوبتكِ.. أخرجي من هذه الدوامة التي ستعصركِ .حبك مات ..مات.. لقد مااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااات ..ماااااااااااااااااااااااااااااااااااااااات .

ـ آآآآآآآآآآآآآه …أعلم إنه مات. لقد مات جسده، وبقيت روحه تسكنني، وتسكن قلبي .

ـ ولكن ……..!

ـ لا تكملي ..حبي أقترب مني أكثر وأكثر .

ـ أنا أقرب لكِ من أنفاسكِ بل أنا أنفاسك .

ـ تعال نعلمهم فنون الهوى، واندماج الأرواح، وما في القلبِ؟ فيه قلب قد هوى!.

ـ لا تبحري أكثر ستغرقين .. يكفي هذا.. يكفي أرجوك.

ـ لن تستجيب.. لن تستجيب لكِ. أرفعي يديكِ عن فمها، وانظري ترقرق الدمع في عينيها؛ لتعرفي لوعة فراق الحبيب.

ـ اتركيني.. ابتعدي عني.. دعيني أحتضن روحي قبل الرحيل.. تعال يا مالكاً قلبي.. مد كفك لي، وانتشلني منها .

ـ هاهي يديَّ تمتد نحوك. لا تخافي يا صغيرتي، فأنا جوارك .

ـ لقد نفذت ما طلبته مني، وحملت قرطاسي وقلمي، وكتبت، ورسمت، وعاركت به من أجلك ..من أجلك أنت وحدك .تجرعت كأسات المرار، وتحملت الصعاب، وتخطيت آلاف الأميال و………………

ـ أصمدي، ولا تيأسي، فالقلم أمانة، والناس ليسوا سواء، فالخامات مختلفة منها: الجيدة، ومنها الرديئة.

ـ صامدة رغم المؤامرات في لغم الدسيسة ..صامدة في التواء الأحرف، وميل الأسطر لأنفس حاقدة لئيمة .

ـ ثقي أن الله تعالى سيحميكِ، فدعواتي ترافقك، والآن أخبريني ماذا حل بكم بعد رحيلي؟!، وما سر هذا العناق، والابتسامة العذبة يا صفاء؟!

ـ حبيبتك…..

ـ ما بها؟!

ـ أنظر للسماء ..أنها كهذه الفاتنة الجميلة في صفاءها، ونقاءها، وروعة عطاءها . لقد كافحت وعاركت الحياة، وفنت شبابها، وضحت به من أجلنا. علمت الوفاء، وجعلت له هوية، ووجود، ما بها تقاسيم وجهك جميعها يبتسم، والفرح منها يتكلم؟!

ـ أعلم بأنها ستظل وفية.

ـ كيف؟!

ـ من أنجبت طفلة مثلكِ غرس في داخلها الصدق لابد أن تكون هي الوفاء.

ـ أبي!! أحبك.

ـ أحبك.. أتريدين أن أدندن لكِ؟!

ـ أجل ….

ـ ماذا تشتهي نفسكِ؛ لتسمعه؟!

ـ أبي !!!

ـ حسناً.. لا تغضبي، وحلي عقدة حاجبيكِ وابتسمي.. أعرف غنيتكِ.. “أنت عمري”.

ـ نعم ..أنت عمري، والعمر أنت .

ـ يا أغلى من أيامي …………… يا أحلى من أحلامي .

خذني لحنانك خذني ……………. عن الوجود و ابعدني .

بعيد بعيد أنا و أنت ……………. بعيد بعيد وحدينا .

ع الحب تصحي أيامنا …………. ع الشوق تنام ليالينا .

صالحت بيك ايامي …………… سامحت بيك الزمن .

نستني بيك آلامي …………… و نسيت معاك الشجن .

ـ أكمل ..لماذا توقفت ؟!

ـ لقد أوشك قرص الشمس على الاكتمال و ………

ـ وهذا ماذا يعني ؟!

ـ يعني لقد أزف الرحيل .

ـ الرحيل؟! لا..لا ترحل .

ـ ليس بيديَّ . لابد أن أرحل.

ـ لا ترحل، وأن وددت الرحيل، فخذني معك.

ـ عودي يا بنتي، واجعلي قلمك سلاح في الحق للجميع.. عودي مازال أمامكِ الكثير لتكتبيه.

ـ لا ..لا أريد شيئاً ..أريدك أنت فقط.. قف أرجوك .

ـ هذا ما كنتُ أخشاه عليكِ انهضي وكفكفي الدمع . لقد رحل.

ـ رحل؟!

ـ أجل .

ـ رحل دون أن يأخذني معه ..رحل دون وداعي .

ـ اهدئي ..

ـ أنتِ السبب .

ـ لا ..اتركيني أرجوكِ.. اتركيني أعيش .آه ..انكِ تؤلمينني. ألا تسمعين صوت تكسر أضلاعي؟

ـ اصرخي.. اصرخي حتى ينحدر الدمع، وأنا سأجعل المكان يدوي بالضحكات. اليوم سأحتضنكِ كما احتضنتني السنوات الماضية.

ـ أتوسل إليكِ ..دعيني ارحل، وأعدكِ بأنني لن أعود .

ـ ألم أقول لكِ أن عدتِ سأقتل ذاتي؟! ألم أقول لكِ لن أحرمكِ اليوم من تحقيق حلمك؟!

ـ لا ..لاااااااااااااااااااااااااااااااا ..اخفضي السلاح، وارميه من يديكِ .

ـ لا تخافي لن تموتين وحيدة سأقتلكِ وأقتل ذاتي، وستسكن روحه جسدي للأبد. ألم تقولي بأنني هو؟! بالأمس أنا والحب، واليوم أنا الحب .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى