مقالات مجد الوطن

جزء من روايتي شرارة وبناتها حرائق!!

 

/ صفية باسودان

خرجت دمعتين من عيني فاطمة بأعجوبة لعل ينبوعها جف أو نفسها سدت حين لاح لها طيف الشيخة فكفت عن هذه السيرة، وأردفت: “وهذا الفقر المدقع الذي حل بكل ما يعرف عنه وما لا يعرف عنه في داري لا يريد أن يتركني وحالي فكم حملت أقلامًا وأوراقًا وحسبت وحسبت فما زاد المال وما ادخرت منه هللة واحدة.. عبوسًا قمطريرا لم يبتسم لي قط”.
كانت قناعة تجلس على الكرسي المقابل لها، تفرك يديها، وتحرك ساقيها المتقاطعة كأنها تهزهز طفل، شعرت بالضجر والتذمر، وعلى طرف لسانها شيئًا كانت تود قوله يكاد يكون مثل: وماذا نفعل لكِ، وما شأننا نحن بكِ وبابنك وبأملاقك؟ ولكنها لم تجرؤ، فلحسن الحظ أن أمها فهمت ذلك، رمقتها بنظرات تنبيهيه، وحملقت فيها، منعت لسانها في الوقت المناسب من إطلاق كلماتها الجهنمية. وهنا اشارت أم قناعة على فاطمة أن تسجل في الجمعية الخيرية كي تساعدها في بعض المتطلبات اللازمة والضرورية للاستهلاك اليومي وهكذا سوف يكون بقائها على قيد الحياة خال من هم الشراء وغم الدين وبالتالي ستكون نفسيتها بصحة عالية وجسمها سليم معافى.
شعرت فاطمة أن أم قناعة مخدوعة فانبرت قائلة بصياح:
ـ ومن أجل هذا كانت لي قصة أخرى.
تضاحكت أم قناعة من ردّها وهي تنظر إلى النافذة، وقالت:
ـ دعينا نصلي صلاة المغرب أولًا فالشفق الأحمر لم أعد أبصره، ثم أخبرينا بقصتك الجديدة.
أسرعن لإداء الصلاة وما أن تأهبنا للوضوء حتى صدح صوت المؤذن معلنًا دخول وقت صلاة العشاء.

أمنة منهمكة في إعداد حفلة جذابة ودافئة، فرشت مفرش الطاولة الذي كان طويلًا جدًا ولونه أبيض كأنه طرحة زفاف، كان من الخامة القماشية، نوعها من الدانتيل الفاخر المطرز بالورد المفرغة وفي شريطه زهور ثلاثية أبعاد مطعمة بحبات الكريستال، بعد ذلك وضعت في وسط الطاولة صحن دائري فارغ متوسط الحجم وحوله سكين تقطيع كبير وصحنين صغيرين بيضاويين في كل واحد منهما منديل قماشي برونزي اللون ثُني كالجيب مستطيل الشكل أدخلت فيه شوكة ذهبية صغيرة وملعقة ذهبية صغيرة وبجوار كل واحد منهما كأس زجاجي لامع ذو قاعدة دائرية وعنق رفيع شاهق ثم زينت الطاولة بالشمعدان والورود المتناثرة فوقها وعلى أطراف المفرش، وفي الطرف لأيمن منها وضعت طاقة ورد بلون الأحمر المتدرج كبيرة.. أنيقة بشكلها المختلف الجميل.. كتب على بطاقتها بخط ديواني رائع وعريض “شكرًا على الحب”، وفي الزاوية المقابلة لها ثبتت مكبر الصوت ذو أضواء متناغمة راقصة.

بعد الصلاة تلجلجت فاطمة عندما ظهر لها دفتر ذكرياتها المفتوح فجأة، صفحاته تقلب مرة كأن هناك يد خفية تتصفحه، ومرة أخرى كأن هواء يبعثرها إلى أن توقف هذا المؤثر الخارجي الغير مرئي عند صفحة طوي جزء كبير من أعلاها على شكل مثلث، رفعته فاطمة بحذر، كتب على كل ضلع من أضلاعه الثلاثة اسمًا (فاطمة، موظفة الجمعية وأمنة)، وفي منتصفه رسمت ندبة عميقة خارجًا منها سهمًا مكتوب عليه عار يخفي جوعًا خلفه، وفي الهامش خُط.. بعد الوحشية والغيبة عدت إلى بيتي وطفلي.
أخذت فاطمة نفسًا عميقًا وأخرجته دفعة واحدة، وقالت:
ـ قدمت أوراقي إلى الجمعية الخيرية وفي أوانه قُبيلَ طلبي بالرفض.
ردت عليها أم قناعة باستهجان شديد:
ـ رفض، لماذا وأنتِ أرملة؟!
ـ سألتني الباحثة وهي تلاعب قلمها بين اصبعيها ومؤخرته بين الفينة والأخرى تداعب به شفتيها: “هل لدى زوجكِ المتوفي تقاعد؟” أجبتها بالإثبات، نعم، ثم اردفت بسؤال آخر أنجب من صلب السؤال السابق: “وكم هو راتبه؟ أعي مبلغ تقاعده كم؟”، قلت لها: بالضبط لا أعرف، لكنني أعتقد انه 2000 ريال، اعترضت اعتقادي وظنت في كلامي ظن السوء، وادانتني باستجواب تفصيلي: “كيف يعني تعتقدين.. وضحي أكثر؟” اعلمتها وأنا أهزز نابي الأيمن انني لم استلمه قط ولم أخذ منه قرشًا واحدًا. عقب ذلك احتفظت بلسانها، دقيقة صمت جحظت فيها عينيها تفحص كرت العائلة بإمعان، ثم سألتني: “هل الأستاذة أمنة الهاشمية القرشية عريقة الحسب والنسب قريبة زوجك؟” وللأمانة هالني سؤالها التاريخي، تلعثمت ولم أعرف على وجه التحديد بماذا أجيب عليها، بيد ان ابتسامتي انقذتني من هذا المأزق الكبير كما ظننت، لكن ظني اندثر حين حل وجهها يقينًا يتطلع إلى دور قيادي ثوري لمواجهة قتالية مع وجهي، ونظراتها لا أعلم تلاحق من؟ أنا أم غيري!
قالت قناعة بسرعة بعدما خطفت انتباها:
ـ حولا…
ـ نعم حولا وعينيها ضيعتني معها وشتت تركيزي.
ـ لو كنت مكانكِ لأخفضت رأسي وفسحت المجال لخطوط بصرها تسافر وتضرب في أي جدار حتى يخجل أحدهما أما هي أو الحائط.
ـ جربت ذلك ولم ينفع، المعضلة أن رفعت رأسي أو خفضته لا أدري أين تحدق؟، أثرت المتابعة بشموخ وانفة حتى اعتلى احدى حاجبيها، قالت وهي تحرك أربعة من اصابعها والاصبع الصغير (الخنصر) منعزل مع ذاته كطفل لا علاقة له بأفعال الكبار: “ألا تعرفين نسب زوجكِ وإلى أي سلاسة ينتمي؟”
قالت قناعة:
ـ ما بها تحولت إلى معتوهة، هل جلطت!؟
ـ لا، هذه طريقة تخويفية لأشعر بهول الموضوع، كتمت ضحكتِ وابتسامتي تتمدد وتتسع إلى أن بانت ثناياي وتغيرت يدها إلى كوز حب.
ـ وهل غرفتِ بها؟
ـ لا.. قمت بتعبئتها.
ـ كيف؟
ـ اخبرتها ان هذه التفاصيل لا تهمني البتة، وكل الذي أعلمه علم اليقين أن شقيقة زوجي اسمها أمنة، وأن مدة زواجي لم تدم طويلًا، فقد كانت عشرة أشهر فقط وانتقل بعلي إلى رحمة الله. ردت عليّ بوقاحة: “قضيتِ عليه”، اسمعت مكتبها ضحكاتي، لم احتمل بجاحتها، وقلت لها: نعم، قبرته من أجل أن يسجل وفاته في تاريخ سلاسته العظيمة التي تعلمين بخباياها أكثر مني، وقبل أن انهض هاجمتني وجاهرت كأنني حلفت عليها أو أصريت عليها بالمدد والغوث، قالت بصفاقة أمام النساء المحتاجات اللواتي حضرنا في تلك اللحظة: “كيف اساعدكِ وأنتِ تستلمين تقاعد زوجكِ؟، هذا نظام ولا استطيع اختراقه هناك من هي أحق منكِ”، تركتها وأن أجر أذيال صدمتي بها دون أن أعلق.
قالت قناعة بلهجة محتدة:
ـ يا لنفاقها! حين شعرت أن البساط سيسحب من تحت قدميها عاملتك بنظامها نظام “خذوهم بالصوت لا يغلبوكم”، ومتى كان هذا؟
ـ قبل سبعة عشر سنة يباس.
ـ سبعة عشرة سنة! مؤكد أن الآن تستلمين راتب تقاعد زوجك.
اعتراها غضب عارم عجزت عن كتمانه:
ـ تستلمه أخته الكبيرة أمنة القرشية الفرعونية قريبة أبو جهل المخزومي.. يخزيها الله ولا يوفقها، جعلت بعض الناس الغير مقربين لي يظنون انني اقبضه واقتات منه أنا وولدي، الصيت لنا والغنى لها، عليها غضب الله وسخطه.
ـ هذه الفلوس ليست من حقها وقد تتورم منها، ويصيبها عسر في هضمها، كيف جرؤت وأكلت مال اليتيم ومالك بالباطل؟
ـ أنا لا أريد شيئًا لي كل الذي أروم إليه أن يحيا هذا اليتيم حياة كريمة من كد وعرق أبيه.
ـ إذن اشكوها إلى المحكمة؟
ـ كيف واوراقها الرسمية سليمة؟
ـ سليمة! أوراق رسمية! لم أفهم
ـ الثقة العمياء التي لا أمل واحد في المئة من علاجها كانت هي السبب الرئيسي لها.
ـ وضحي؟
ـ أخوها في اثناء مرضه أعطاها وكالة شاملة بحرية التصرف في جميع املاكه، استغلت ذلك اسوء استغلال، وكان ذنبه الذي ندفع أعمارنا إلى اليوم كفارة له.
من شدة الانفعال استشاطت فاطمة وارتفعت درجة حرارتها، فزت من مكانها كالهارب من الرمضاء تزبد وتزمجر حاملة نصف عباءتها على كتفها الأيمن والنصف الأخر تسحله على الأرض.
قامت أم قناعة بتهدئتها، وتعطيل لغة انفعالها النافر:
ـ أجلسي فقصتكِ هذه شبيهه بقصتي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى