مقالات مجد الوطن

حياة

 

محمد الرياني

تغادر القرى نحو المدائن، تهرب الابتسامات الهادئة نحو القهقهات الصاخبة، تهرب الطيور الصفراء من أعشاشها الخضراء لتغير أجنحتها في الشبابيك العالية، تغيب عن الأزقة الأقدام الحافية لترتدي الجوارب في الأخاديد والأنفاق، اعترض آخر عصفور مهاجر، لم يبق في المحيط سواهما، خلت القرية من الأصوات الخجولة التي تخترق الصباح لتوقظ النائمين الكادحين، كل العصافير تركت أشجار الأثل والسدر هائمة نحو أعمدة بلا أوراق أو أغصان، أخذت معها ألحانها وكلماتها لتغني في الغربة وبقي مع عصفور وحيد يغنيان بالكلمات الباقية التي تركها الراحلون نحو الصخب، سكنوا في أرض الغربة، لم يجدوا فيها إيقاعات للرقص البريء أو حدائق للنشيد، استوطنوا الشارع الفسيح بلا مظلات تقيهم اللفح والزمهرير، أطلقوا اللحن الحزين والعرق يتصبب، غابت النجوم في حضور البنيان الذي حجب التلألؤ الفتان، باتوا يطربون الليل بلسان القرية التي ودعوها على حين غفلة، لم يعجبهم العيش في مدائن تكره العواطف، قرروا الرحيل قبل أن تشرق الشمس، في الظلام الدامس وجدوا حواجز في كل الجهات، صدوهم عن العودة نحو الطرقات الضيقة وبقايا المطر، مكثوا حتى الصباح ليروا الحياة الجديدة من جديد، لم يروا عصافير تهاجر نحو أعشاشها، ماتت العصافير من صيد البنادق التي تريد للنوافذ المتحضرة أن تكون نظيفة من مخلفاتها، بنوا لهم عند المصدات بيوتًا تشبه بيوتهم من الأشجار القريبة، كبرت الأشجار ولم تأت طيور لمؤانستهم، بقي في القرية مع عصفوره يدربه على التحليق في مكان واحد، علمه التغريد بلهجة واحدة، تزاوج الطير الجميل مع عصفورة هاربة وجدت فرصة للهرب، استعادت القرية شيئا من نشيجها، سكن العصفوران في رأس شجرة سدر في غاية الاخضرار، واستظل هو بظلها، بنى من فروعها حواجز عالية كي لاتعود الهجرة نحو موت آخر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى