قرأت -عبر الصدفة – مقالا للكاتبة الأستاذة سحر علوي الشيمي ، ووجدت فيه مقومات المقال المتكامل ، وبعدها ظللت أتتبع كتاباتها ، واستمر معي الاندهاش الممزوج بإعجاب بتلك المقالات ، لأني وجدت فيها نمطا مختلفا للكتابة .
ساعتئذ تواصلت مع الكاتبة ، واقترحت عليها جمع مقالاتها في كتاب ، وطلبت منها الإذن لي بدراسة بعض مقالاتها بشكل مفصل ، لبيان أسلوبها في الكتابة ، وإلقاء الضوء على مقالاتها .
فقررت إجراء هذه الدراسة عبر المنهج الأسلوبي الذي يتناول النصوص من خلال عدة مستويات ، هي :
المستوى الصوتي
المستوى الصرفي
المستوى النحوي
المستوى الدلالي
المستوى البلاغي
وستتداخل هذه المستويات عندي في التناول ، ولن أفْصِلَها فصلا حادا ، وسأركز على أهمية كل مستوى ودوره في الفهم الأعمق للنصوص.
لي قناعة تامة أن الكاتب إذا وفق في اختيار عنوان كتابه أو عنوان مقاله ، أو الشاعر إذا وفق في اختيار اسم ديوانه أو اسم قصيدته سيكون المتلقي منجذبا حتما للمضمون ؛ لأن العنوان هو بريد المضمون ، إذ يسحب معه فكر القارئ ، ويشد معه انتباه المتلقي.
هذا الأمر وُفقت فيه الكاتبة السعودية سحر الشيمي ، ولا عجب فهي خريجة الأحياء الدقيقة ، فقد كانت دقيقة في اختيار عناوين لمقالاتها التي تربو عن المئة .
العنوان عند سحر الشيمي يتميز بمميزات قلما تتوافر لدى كتاب آخرين ، ومنها :
-الجناس بين كلمات العنوان
-قلة الكلمات ما بين كلمتين إلى ثلاث غالبا
-توافق العنوان مع المضمون
ونستطيع قياس ذلك من خلال نظرة سريعة لعناوين مقالاتها ، وهذه بعضها على سبيل المثال :
نبادر ونغادر
تقدر فلا تغدر
فُتات الالتفات
هشاشة الشاشة
للوصول أصول
نوح البوح
غيْمُ الهِيم
عابق عالق
بريق وبل ريق
هذه العناوين المتجانسة بلغت الحد الأقصى في المستوى الصوتي ، فتكرار بعض الحروف المتقاربة المخرج أو المتحدة المخرج يعطي نغما مموسقا ، وجرسا منغما ، يجعل القارئ ينسجم مع النص ، وهذا يبدو جليا في تكرار بعض الحروف ، مثال لذلك تكرار حرف الهاء في سطر واحد سبع مرات ، في الجملة التالية :
قد ينتهي بالهوس الذي يؤدي إلى هاوية الانهيار للمنبهر ، وهو ظاهرة…
تأنقت الأستاذة سحر الشيمي ، وتألقت في اختيار العنوان ، ولكن لم تتوقف عند ذلك ، فكانت تقدم مضمونا رائعا ، ومحتوى مدهشا ؛ وتتميز مقالاتها بعدة مميزات تجعلها صالحة للبقاء وقابلة للاستمرارية ، ومنها:
سلامة اللغة ، ورصانة التراكيب ، وجزالة العبارات ، والاقتباس من القرآن الكريم ومن الحديث النبوي ، وتوظيف النص المقتبس ليخدم الفكرة ، ويدعم المحتوى ، والتسلسل المنطقي للأحداث مع الالتزام بصرامة ضوابط فن المقال ، من مقدمة وعرض وخاتمة.
ولها قدرة فائقة في براعة التخلص ؛ إذ تنهي فكرة ، وتسلمك لأخرى، دون هوة في المعنى، ولا فجوة في المضمون ؛ إذ تتسلسل الأفكار رقراقة، وتنساب سلسة .
اقتباسات سحر القرآنية والحديثية مميزة ؛ لأنها تنهل من معين دراستها العليا في المعهد العلمي العالي للقرآن و السنة ، فكان التوظيف موفقا ، وكان النص المقتبس في مكانه تماما يخدم الغرض.
أما من حيث موضوعات المقالات ، فكلها موضوعات حياتية ، تمس المجتمع، وتناقش قضاياه ، فيحس القارئ أنها منه وله ؛ فيطلع على تلك المقالات ، ويدرك أن الكاتبة فعلا بنت مجتمعها ، لم تنفصل عنه ، ولم تترفع عن همومه ، بل خاطبت قضاياه .
لم يكن تناولها سطحيا ، وإنما كان تناولا عميقا ، فيه تشخيص للمشكلة ، وبيان أسبابها ، والتنفير من نتائج تفشي هذه الظاهرة أو تلك ؛ لينفر المجتمع منها ثم تضع الحلول الملائمة.
تفتح سحر نافذة أمل للمغبونين والمحرومين ، وتبين لهم أن الحياة قصيرة مهما طال ليل الألم، فصبحُ الأمل قريب ؛ هنا تقول – في مقالها الذي عنوانه : على قدر انكسارك يتسع قصرك – ” ولكن رغم ذلك جمعوا فتات هذه الكسور وصنعوا بها قصوراً في نهاية طريقهم “، ثم تقول ” وهذا لا ينحصر على الحياة الدنيا وإنما أيضا لقصر الآخرة . وعلى قدر الانكسار بين يدي الله في كل حاجاتك في دنياك وآخرتك .يتسع قصرك وتحوز أمنياتك .”
مقدمات مقالاتها تذكرني بما يسمى في نقد الشعر ببراعة الاستهلال ، فالكاتبة بارعة أيما براعة في استهلال ،وبدء مقدمات مقالاتها ، تحسن التمهيد وتجيد استدراج القارئ بهدوء إلى صلب الموضوع ، فهي تتنوع في بداياتها ، وربما تبدأ مقالها بمقولة مأثورة من التراث العربي ، أو بعبارة لأحد الأدباء كما فعلت حينما بدأت مقالها المسمى “غيم الهيم” بعبارة للدكتور علي الطنطاوي : ” ليس في الناس من لم يعرف الحب. وليس فيهم من عرف ما هو الحب ” .
كما أجادت في مقدماتها، فقد أجادت ختام مقالاتها ، وهنا أذكر مقولة الكاتب الأمريكي آرنست همنحواي، حين قال : إنني أجتهد في صياغة خاتمة رواياتي ؛ لأنها آخر عهد بالقارئ ، ولو كانت الخاتمة مميزة فسيضطر القارئ لقراءة رواية أخرى لي ” .
وقد تختم الأستاذة سحر بعض مقالاتها بدعاء حينا ، وبنصيحة أحيانا ، نموذج للدعاء حينما ختمت مقالها المسمى : عابق عالق ، دعت قائلة : ” اللهم استعملنا ولا تستبدلنا فلتبق عابقا بذكراك عالقا بشذاها على مر الأزمان ” .
ولكن ما شدني هو أنها تختم أحيانا بسؤال بدون إجابة ؛ حتى تترك للقارئ مجالا ، وهذا من النهايات المفتوحة التي تجعل الكاتب يضع القارئ شريكا معه في الإبداع ، ومن تلك النهايات التي وردت في خاتمة مقالها “انبهار فانهيار” قولها : ” فهل لنا من حكمة ؟!..
كما تناولتْ في مقالاتها عددا من الموضوعات المسكوت عنها مثل الجفوة الأسرية بين الأزواج، وذلك في مقالها ميزان بلا اتزان ،وشخَّصت المشكلة ، وبيّنت خطورة انتشارها ، وشرحت كيفية التعامل معها ، ووضعت خارطة طريق للأزواج ؛ حتى يستقيم وضع الأسرة ،وحمّلت كلًّا من الزوج والزوجة مسؤوليته ،ولم تمِل لجانب دون آخر ، فلكل منهما دوره المهم ، وكان تناولها متسقا مع مقدمة المقال ، حينما تحدثت عن العدل الذي ذكرت آلته وهي الميزان في عنوان المقال .
برعت الكاتبة في التلاعب بالاشتقاقات اللغوية للكلمات، واستغلت هذا الثراء الذي تتمتع به اللغة العربية خير استغلال ، ومن يتابع العلاقات بين الاشتقاقات في اللغة العربية، وكيفية الوصول إلى المعاني الكامنة يعرف كيف يجعل القارئ يشعر بمتعة الاستنتاج، حين يفهم النص بصورة أوضح وأعمق، فنجد اسم الفاعل في : هاوية ، ظاهرة ، متدرجة …/ واسم المفعول في : محمود ، ملهوف …/ والمصادر في : انهيار ، إصرار …
دلاليا نجد الكاتبة برعت في استخدام الكلمات التي فيها انزياح دلالي عن معانيها إلى معانٍ أخرى ؛ مما يعين القارئ على فهم مقصد الكاتبة ، وتبيُّن خفايا النص، وتكريس اللغة الأدبية .
هنا عبارة فيها عدد من الكلمات التي انزاح معانيها دلاليا؛ لتحمل معاني أخرى إضافية : فلنعتنِ بصفحات كتابنا، وسقي أزهارنا لتثمر، ويفوح شذاها
أما من حيث المستوى البلاغي فنجده يتداعى في مقالاتها من غير تكلف ، مما يجعل بعض المقالات تتحول ، كأنها قصيدة شعرية ؛ لما احتشد بها من صور بلاغية بجميع أنواعها ، ومن ذلك :
– الجناس في عناوين المقالات ؛ مما يعطي العنوان جرسا موسيقيًّا ، ومن أمثلته : أسير كسير ،فُتات الالتفات ، هشاشة الشاشة ، وغيرها كثير في معظم العناوين ، وفي غير العناوين مثل : الآلام و الآمال.
– الاستعارات التي تكثر في نصوصها، ومنها : بحر الهوى ، و مرسى المودة …
– الطباق وهو الجمع بين الكلمة وضدها ، من فوائد هذا التضاد توضيح المعنى ، ويكثر الطباق في مقالات سحر مما جعل المعاني واضحة بيِّنة ، ومن ذلك : بسيط ، كبير / مادي أو معنوي /فرح وحزن…
– السجع وهو توافق أواخر الحروف في نهايات الكلمات ، مما يعطي جرسا موسيقيا ، ومنه : هل خير وإحسان ، أم شر يتبعه سخط وحرمان. وأيضا : ويفوح شذاها ، ولا تطول يد النسيان ذكراها .
– كما يكثر الترادف وهذه سمة مهمة ، من فوائدها تأكيد المعنى ، وهي دلالة على ثراء المخزون اللغوي للكاتبة ، ومن ذلك : المشاعر ، الأحاسيس / الهوى ، الحب / المأمول ، المنشود.
– يبدو التأثر بالقرآن واضحا في كتابات سحر إذ تقفز بعض العبارات التي امتاحتها من نص الآيات إلى نص المقالات ، ومن ذلك قولها : هباء منثورا ، وفيه تأثر بقوله تعالى : { … فجعلناه هباء منثورا } الفرقان 23
ومنه أيضا قولها : أوجد الله الإنسان من العدم ولم يكن شيئا مذكورا ، وفيه تأثر بقوله تعالى : { هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا } الإنسان 1
– وللكاتبة عبارات – من رصانتها – بلغت مبلغ الحكم ، ومنها : الآلام تصنع الآمال ، وكذلك : ومن حمل الثقال يصنع الرجال.
أما من حيث المستوى النحوي ؛ فالظواهر النحوية ليست حلية للنص ، وإنما لها دور مهم في خلق المعاني، ويتعاضد المستوى النحوي مع المستويات الأخرى ضمن سياق النص لإبراز المعاني التي يريدها الكاتب؛ إذ تنوع الكاتبة في مقالاتها بين الجملة الاسمية والفعلية ، ولكلتيهما ميزات في اللغة ؛ فالاسمية تدل على الثبوت والاستمرار ، والفعلية تدل على التجدد والحدوث.
فمن البدء بالاسمية قولها : للحب محطات ومواسم متدرجة يمر بها الإنسان ، وكذلك : العدل اسم من أسماء الله وهو الإنصاف ، ومن الفعلية قولها : أوجد الله الإنسان من العدم ، وكذلك : ولا تكن إمّعةَ في الانبهار بكل شيء ، وهذا التنويع يدل على قدرة الكاتبة ، كما يدل على حرصها على شد انتباه المتلقي.
كذلك يكثر لديها تكرار الأفعال أو الأسماء أو غيرها من الأبواب النحوية مثل: التقديم والتأخير، والوصل والفصل، وبناء الجمل ، وغير ذلك …
ــــــــــــــــــــــــــ
طارق يسن الطاهر
Tyaa67@gmail.com