مقالات مجد الوطن

حينما يتسرب القلق من مسام القصيدة

 

ــــــــــــ

قراءة تأملية في قصيدة “الشفق المنسيّ”

للشاعرة السودانية مناهل فتحي

ــــــــــــــــــــــــــ

 

النص:

وقفتُ طويلًا خلفَ تاءِ أنوثتي وخلفَ تقاليديْ، وعاداتيَ التي…

تلكّأتُ، واستعجلتُ، أوجسْتُ خيفة وحدّقتُ في الليل المقيم بشرفتي

تقمَّصني خوفُ الغروب، ورثْتُه من الشفق المنسي في رَحْلِ جدتي

وآنستُ غِرْبالًا أبوحُ فينتقي يحرّف ما ترمي إليه قصيدتي

ففُكَّ حجابي أيُّها القلبُ، وارْمِني على الشطِّ، وانزع حيرتي وتشتُّتي

وقلْ للذي ما زال في السطرِ مبحرًا مرافئُه الأولى تُضلِّلُ قِبلتي:

شرِقتُ به حتى نطقتُ بصوته وأدمنته: خمري، وشايي، وقهوتي

فيا سَفري، قل للمطاراتِ: أمهلي رواحلها، قل لي: من الركب أفلتي

(على قلقٍ والريح تحتي) وليس مِنْ (كأنّ) سوى حزني الذي في الحقيبةِ

مضى العمرُ أحدو الطائرات فلا أنا انتهيتُ ولا أطرافُ قصدي تجلّتِ

أنيخي بنا نوقَ السماءِ فكلُّنا نتوقُ إلى أرضٍ بنا مطمئنةِ

وهل يطفئ الأرواحَ في طينها سوى حياة كهذي الأرضِ لا مستقرةِ

أرى حين تهوي الشمس في الماءِ قصةً تشابهنى، هل تعرف الشمس قصتي؟

كلانا رفيقا رحلةٍ مستديرةٍ نرى من أعالينا انطفاء المجرّةِ

فيا غربةً – لمّا تزل تستزيدني لمواليَ المفضي إلى الروح – أنْصتي

 

القراءة التأملية للنص:

 

 

يعلو الصوت الأنثوي في هذه القصيدة – وفي معظم شعرها، خاصة لو عرفنا أن لديها مجموعة شعرية بعنوان “أوجاع النساء” -رغم أنني ضد تصنيف الشعر ما بين نسائي ورجالي، لكن من يقرأ هذه القصيدة يعرف أنها لشاعرة؛ لعلوِّ الصوت الأنثوي منذ بدء النص، ويسري إلى آخره.

فالأنثى حاضرة في النص بقوة، حضرت بكل تفاصيلها وانزياحاتها اللغوية.

 

 

كما أن صوت الأنا طاغٍ جدا في هذه القصيدة؛ فقد جاءت بضمير المتكلم، فالشاعرة منشئة الحدث، ومحرِّكة السكون في هذه القصيدة.

 

إنها دكتورة مناهل فتحي حسن، شاعرة وروائية وناقدة سودانية،

شاعرة مجيدة مقتدرة تمتلك أدوات الإبداع؛ تصل بشعرها لقمة الجمال الشعري الذي يأسر المتلقي، ويجعله رهين كلماتها التي تعبِّر عن عاطفة صادقة، بلغة رقيقة، وألفاظ موحية، ودلالات عميقة.

 

تفتح مناهل المآلات والنهايات للمتلقي؛ ليجنح بخياله بعيدا، فيكون شريكا لها في خلق الحالة الإبداعية، ويتبدَّى ذلك جليًّا منذ البيت الأول :

وقفتُ طويلًا خلفَ تاءِ أنوثتي وخلفَ تقاليديْ، وعاداتيَ التي…

“التي” اسم موصول، يلزمه صلة تكمل معناه، لكن مناهل لا تأتي بها، وتضع لنا علامة الحذف( …) ليُعمِل المتلقي أدواته البحثية، ويستكمل المعنى المتوقَّع حسب فهمه.

 

 

تعددت الدلالات في هذا النص، فهناك كثير من الألفاظ الموحية التي تحمل في طياتها إيحاءات بأن وراءها ما وراءها، وقد حشدتها الشاعرة حشدا عفويا يليق بالمضمون، ولا ينشز عن السياق.

ومن ذلك دلالات الطبيعة، فقد ورد في النص كلمات مثل:

الشمس، الأرض، الماء، المجرة ….

المكان:

الأرض، المرافئ، المطارات، قبلة…

الزمان:

الليل، العمر، الغروب…

 

 

وتتحد شاعرتنا مع الطبيعة ومظاهرها، ويتجلى ذلك في اتحادها مع الشمس، فقصتهما واحدة، وتتساءل في تعجب: هل تعرف الشمس قصتي؟ فكلاهما رفيقا رحلة مستديرة ممتدة، لا تكف ولا تنتهي:

 

أرى حين تهوي الشمس في الماءِ قصةً تشابهنى، هل تعرف الشمس قصتي؟

كلانا رفيقا رحلةٍ مستديرةٍ نرى من أعالينا انطفاء المجرّةِ

 

 

تغني مناهل فتُبدع، وتنشد فتُمتع، فتتحد معها الكائنات مغردة منصتة لموالها، فما زالت الغربة تفضي إلى غربة، والسفر يفضي إلى سفر، ولا سلوى لها غير القصيد المعبِّر عن الروح.

 

 

يبرز القلق المتقد في جميع أرجاء النص، وتبدو الحيرة والتشتت، وعدم الاستقرار، فلا تطمئن نفس الشاعرة، ولا يركن جسدها في مكان واحد، فها هي المطارات تستدعيها، وها هو هَمُّ السفر يحدوها:

فيا سَفري، قل للمطاراتِ: أمهلي رواحلها، قل لي: من الركب أفلتي

 

ثم:

 

مضى العمرُ أحدو الطائرات فلا أنا انتهيتُ ولا أطرافُ قصدي تجلّتِ

 

 

قلق من ذلك الليل المقيم الذي لا يُتوقَّع بزوغ صبح له، قلق من الغروب المخيف:

 

تلكّأتُ، واستعجلتُ، أوجسْتُ خيفة وحدّقتُ في الليل المقيم بشرفتي

تقمَّصني خوفُ الغروب، ورثْتُه من الشفق المنسي في رَحْلِ جدتي

 

 

 

تسعى الشاعرة جاهدة للانعتاق من ربقة شيء ما، تحاول جاهدة الهرب من أمر ما؛ مما أورثها ذلك القلق الذي سيطر على النص، فالريح تحتها حقيقة بدون ” كأنّ” ، غير حزنها :

(على قلقٍ والريح تحتي) وليس مِنْ (كأنّ) سوى حزني الذي في الحقيبةِ

 

 

 

 

صوتيا، نلحظ تكرار حرف التاء – فالقصيدة جاءت على روي التاء المكسورة- مما يعطي الإيقاع دوزنة موسيقية وتنغيما عاليا ، وقد تكررت التاء في جميع النص باطراد متزن؛ مما منح النص جرسا إيقاعيا أنيقا، ولو تتبعناها في البيتين الأول والثاني نجدها تكررت أربع عشرة مرة:

 

وقفتُ طويلًا خلفَ تاءِ أنوثتي وخلفَ تقاليديْ، وعاداتيَ التي…

تلكّأتُ، واستعجلتُ، أوجسْتُ خيفة وحدّقتُ في الليل المقيم بشرفتي

 

وجاءت التاء في بعض الكلمات مرتين : استعجلت، تلكأت

 

وكثيرة هي القصائد التي جاءت على روي التاء المكسورة، ومن أشهرها رائعة كثير عزة التي مطلعها:

خليليَّ، هذا ربع عزة، فاعقلا قلوصيكما، ثم ابكيا حيث حلتِ

لكن مناهل تجاوزت التقليد، وخرجت- باحترافية عالية- من الصياغة على نسق أي من تلك القصائد، فكان لها فرادتها التي تميزت بها.

 

 

القصيدة من بحر الطويل الذي يُعد أطول البحور الشعرية، كما يتميز بتكرار تفعيلتين، ويتميز بأنه من البحور التي تتطلب نفَسًا شعريا طويلا من الشاعر؛ فهو بحر غنيٌّ بالكلمات، فنجد أن شاعرتنا قد أحسنت اختياره؛ لأنه قادر على استيعاب ذلك الفيض الحركي، والقلق الممتد داخلها، النافذ إلى خارجها.

 

 

يعتمد النص على الجملة الفعلية بكثرة، والفعل في اللغة يدل على الحدوث والتجدد، وهذا يتسق مع شعور القلق، والانسيابية المتدفقة من عاطفة الشاعرة، فقد استخدمت الشاعرة في النص الذي يبلغ خمسة عشر بيتا قرابة الأربعين فعلا، تنوعت أزمانها بين الماضي والمضارع والأمر.

 

 

 

 

يحتشد النص بصور بلاغية عميقة، تتجلى فيه كل موضوعات البلاغة المعروفة، ومن ذلك:

الاستعارة في “وانزع حيرتي” فلو قرأناها في سياق البيت الذي وردت فيه ندرك أن الشاعرة تأتي بالاستعارة في الفعل “انزع” الذي يستخدم للثياب- ويتأكد أكثر مع اصطحاب حديثها عن الشاطئ في البيت- ولكن المفاجأة في أن النزع هنا لا للثياب، وإنما للحيرة على سبيل الاستعارة المكنية.

 

وظفت الشاعرة أسلوب الإنشاء في معظم صوره أكثر من الأسلوب الخبري، وذلك يتوافق مع طبيعة النص:

فقد ورد الاستفهام في معظم القصيدة بدلالاته البلاغية، وخرج عن مقتضى الاستفهام الحقيقي، ومن ذلك:

هل تعرف الشمس قصتي؟

وهل يطفئ الأرواحَ…؟

 

 

ثم وظفت النداء بنسق بديع؛ إذ ورد في نداء ما لا يعقل:

فيا سَفري، قل للمطاراتِ: أمهلي رواحلها، قل لي: من الركب أفلتي

كذلك في قولها :

فيا غربة

 

أما أسلوب الأمر فقد تكرر كثيرا في القصيدة بصيغة فعل الأمر على سبيل المثال ثلاث مرات في بيت واحد:

ففُكَّ حجابي أيُّها القلبُ، وارْمِني على الشطِّ، وانزع حيرتي وتشتُّتي

إذن نجد أفعال الأمر : فُكّ ، ارم، انزع

 

استخدمت الشاعرة الخبر البلاغي في ندرة واضحة، وذلك لأن النص يستدعي في طياته توظيف الإنشاء أكثر من الخبر.

ومن الخبر قولها:

وآنستُ غِرْبالًا أبوحُ فينتقي يحرّف ما ترمي إليه قصيدتي

وكذلك:

كلانا رفيقا رحلةٍ مستديرةٍ نرى من أعالينا انطفاء المجرّةِ

 

وأدَّى الطباق دوره بقوة في توضيح الحالة الشعورية للشاعرة في :

تلكّأتُ، واستعجلتُ

 

ونلمح صورة بديعة ممتدة بين بيتين ؛ حيث تستكمل معنى الأول في الذي يليه، مما يخلق صورة ممتدة تليق ببحر الطويل، وتلائم امتداد نفَس الشاعرة:

وقلْ للذي ما زال في السطرِ مبحرًا مرافئُه الأولى تُضلِّلُ قِبلتي:

شرِقتُ به حتى نطقتُ بصوته وأدمنته: خمري، وشايي، وقهوتي

 

فالأمر بالقول في البيت الأول ، ومقول القول في البيت الثاني.

 

 

صرفيا برعت شاعرتنا في توظيف المشتقات، ويبدو ذلك جليا منذ العنوان ” الشفق المنسي” فـ”المنسيّ” اسم مفعول، فـ”شفق” شاعرتنا منسيٌّ، وبيَّنت مكان نسيانه، ومن أين ورثتْه:

تقمَّصني خوفُ الغروب، ورثْتُه من الشفق المنسي في رَحْلِ جدتي

 

وكذلك اسم الفاعل مثل: المقيم، المطمئنة، مستقرة، مبحر…

واسم المكان : مرافئ …

 

 

 

المفردات – في جميع النص- موحية وتحمل ظلالا وإيحاءات دالة مثل: الغروب، وإيحاءاته بالنهاية أو قربها، والشفق الذي يتجانس مع الغروب ، المنسي ودلالات الترك والإغفال.

 

وقد يأخذ على شاعرتنا آخِذٌ استخدام كلمات قديمة في نص حديث، مثل كلمة “أنيخي”:

في قولها:

أنيخي بنا نوقَ السماءِ فكلُّنا نتوقُ إلى أرضٍ بنا مطمئنةِ

فالفعل جاء بصيغة الأمر المسيطرة على النص، وطلب الإناخة هنا للنوق لكنها نوق السماء، هنا يبرز التوظيف البلاغي الذي يجعل الخيال يجمح ويخرج بالكلمة من مدلولاتها القديمة لسياقات حداثية، مع الحذف الموفق لأداة النداء في : نوق السماء، وأصلها يا نوق السماء.

كذلك نقول في كلمة “رحْل” فهي تناسب النوق التي ذكرتها في النص، وتناسب إضافتها إلى ” جدتي”.

 

والمتأمل يجد أنها تمكنت ببراعة من توظيف تلك الكلمات العتيقة في سياقها الصحيح، وحمَّلتها معاني حديثة، لا تترك لمنتقد منفذا إليها.

 

 

 

يبرز التناص مع شاعر العربية الأكبر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، فالذي يرتقي شعر المتنبي لابد أن يمتلك الأدوات المعينة له على تلك الجرأة، ولكنها جرأة محمودة وموفقة لدى مناهل، رغم أنها تناصت بتصرف، ولكن أمانتها العلمية في النقل جعلتها تضع ذلك بين قوسين:

إذ نستدعي هنا بيت المتنبي الشهير:

على قلق كأن الريح تحتي أحركها جنوبا أو شمالا

فتقول:

(على قلقٍ والريح تحتي) وليس مِنْ (كأنّ) سوى حزني الذي في الحقيبةِ

كما نقلت البيت من الوافر -لدى المتنبي- إلى الطويل -لديها- باحترافية عالية وبجودة واضحة.

 

ويصمم المتنبي أن يضع بصمة أخرى في نص مناهل؛ وذلك حينما تتناص معه في قوله:

 

حَتّى إِذا لَم يَدَع لي صِدقُهُ أَمَلاً شَرِقتُ بِالدَمعِ حَتّى كادَ يَشرَقُ بي

حين قالت:

شرِقتُ به حتى نطقتُ بصوته وأدمنته: خمري، وشايي، وقهوتي

 

 

وثقافة الشاعرة القرآنية واضحة حين نعلم أن لها مجموعة شعرية بعنوان” كأنه هو” وذلك تناص مع الآية : (قالت كأنه هو…) النمل 42 ، في إشارة لبلقيس ملكة سبأ ، إذن عودا على بدء نجد مناهل تعبِّر عن الأنثى، وتعلي من صوتها.

 

 

وكذلك حينما تتناص مع قوله تعالى (… إني آنست نارا…) طه 10 ، حين تقول:

 

وآنستُ غِرْبالًا أبوحُ فينتقي يحرّف ما ترمي إليه قصيدتي

 

وكذلك في قولها :

تلكّأتُ، واستعجلتُ، أوجسْتُ خيفة وحدّقتُ في الليل المقيم بشرفتي

إذ تتناص مع قوله تعالى : ( وأوجس منهم خيفة) هود 70

 

 

هذه وقفات عجلى على أسوار نص عميق، أردت أن أضيء جنباته؛ لعل أحدا يرقى أعلى أسواره، ويقتحم مجاهيله، ويسبر أغواره بما يستحق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

طارق يسن الطاهر

Tyaa67@gmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى