مقالات مجد الوطن

عشق لرأس قتيل :

 

د. إبراهيم بن عبدالله عبد الرازق

غرائب العشق ، والعشاق فوق ما يتصوره العقل حتى قيل عن العشاق مجانين ؛ وفي مقدمتهم مجنون ليلى بل العشق قاتل .

ذكر عبد الملك الأصمعي وهو من أشهر الشعراء الذين عرفتهم العراق :
أنه في إحدى الليالي أثناء مروره بالصحراء . وجد صخرة نُحت عليها بعض الكلمات :
“أيا معشر العشّاق بالله خبروا … إذا حلّ عشقٌ بالفتى كيف يصنع”.

ورد الأصمعي ليكتب على الصخرة قائلا:
“يُداري هواه ثم يكتم سره … ويخشع في كل الأمور ويخضع”.

وفي اليوم التالي، يتصادف مروره بنفس الطريق، ويمر بجوار نفس الصخرة، فإذا بذلك المجهول رد على أبياته قائلا:
“وكيف يداري والهوى قاتل الفتى
وفي كل يومٍ قلبه يتقطع”.

ليستكمل الأصمعي حواره مع ذلك العاشق المجهول فرد عليه قائلا:
“إذا لم يجد الفتى صبرًا لكتمان أمره
فليس له شي سوى الموت ينفع”

فامتثل ذلك العاشق ليغدو جثة هامدة بجوار الصخرة وقد كتب الشاب على الصخرة:
“سَمعنا وأطعنا ثم متنا فبلغـوا
سلامي إلى من كان بالوصل يمنعُ
هنيئًا لأرباب النعيم نعيمهـــم … وللعاشق المسكين ما يتجرع

وبهذه الكلمات، أنهى ذلك الشاب حياته فما كان من الأصمعي إلا أن قال مقولته الشهيرة “ومن الحب ما قتل” .
ايضا وُجد في الأمم الأخرى عشق بين البشر ، والحيوان ، والدُمى وكل ذلك ربما ضرب من العجب ، والجنون .
أما أن يعشق إنسان جزءً من جثة إنسان فشيئ غير مسبوق ..

سيدة بلغت التسعين من العمر
رُزقت بأولاد ، وبنات ، وبأولاد أحفاد .
تُوفي زوجها وهي بالخامسة والسبعين هي نعم الزوجة ، والأم ، والجدة بجسمها النحيل الذي لم يمنعها همتها في العبادة ، والعشرة الطيبة ، والإحسان هي معين من العطاء ، والتسامح ، ونشر المحبة رغم كبر سنها ، وآلامه لم تعرف للشكوى صوتا ، ولا كلمة يستظل ابناؤها بحنان عطفها ، وأمومتها المتجددة ..
إبنها الأكبر حبيبها ، ومستودع احاديثها الجميلة يُصَبحها ويُمسيها وكذلك بقية ابنائها ..
مرة ! ولعلها أحست بدنو أجلها ؛ وكالعادة أراد ابنها الأكبر ان يُغادر بعد جلسة مسائية دافئة حول موقد تتلاعب ألسنة نارها تلاعب الهواء بشعر غجرية تمشي على شاطئ روماني صباح يوم مشمس وقت صيف لاهب . تحلق الجميع مع الأم يتسامرون يرتشفون ساخن المشارب برائحة الزنجبيل ، والزعفران لم تنقصها موسيقى صاخبة من الضحكات ، وأصوات ارتشاف القهوة ، والشاي بالزنجبيل تصدح بالهناء ، والسعادة ..
ضغطت الأم يد ابنها أن ابق لا تذهب !.
بنباهته قال : لن أذهب وإنما أريد أن اغسلي يدي من بقايا التمر ، والأقط ، والكيك ، وخيراتك يا أمي .
إلتهم الذهاب الأبناء ، والبنات ، وأولادهم ؛ وغص بالابن الأكبر حيث بقي يريد أن يستمتع باختصاص أمه له من بين إخوته.
إقترب ممسكا بيد أمه قائلا وقد اعتلت محياه ابتسامه لا تخفى:
ما عندك يا حلوة البن ؟ آمري تدللي.
قالت : اسمع ياولدي وقد تساوت تقاسيم وجهها وكل جزء استوى في مكانه سوى اشراقتها التي تبعث على الطمأنينة ..
لقد تزوجت والدك ، وعشت معه بهناء ، وعشرة حسنة لم نقصر مع بعضنا بالحقوق ، والواجبات حتى بالإحسان ، والأفضال ، وأنت وإخوتك ثمرة أكثر من خمسٍ وستين سنة من حياتنا بعد الزواج .
وبعد أن رحل إلى الجنة بإذن الله
سأُفضي لك سرًا..
الابن متحفزا ! وقد علته علامات التعجب كأنها أسراب طير تكتشف المكان قبل النزول لتجمع مائي حوله اخضرت الأرض ، والأشجار .
خيرا يا أمي ..
قالت : في قديم الزمن أثناء الكر ، والفر ، والتنافس على مصادر الماء ، والأماكن الخصبة ! من الطبيعي أن يكون لكل قوم أو أهل ناحية : زعيم يتولى شؤونهم ، ويكون ندا للمنافسين ..
جاورونا ناحيتنا قوم بفارس شاب ذاع صيته بالشجاعة ، والجسارة ، وتوسيع سلطاته تحدث عنه الناس إعجابا ، وخوفا ؛ عرفه الصغير ، والكبير .
بأمر الله دارت عليه دائرة الزمان ! واستطاع أهل ناحيتنا رد غزوه واستطاعوا قتله .
من شدة فرحهم ، وافتخارهم جعلوا رأسه فوق رمح ، وأبقوه في ساحة سوق قريتنا أياما يراه الناس ..
خرجت مع أمي وانا في الرابعة عشرة تقريبا ..
نعم يا إبني لا زلت اتذكر تفاصيل ذهابنا .
اتذكر حديث والدتي رحمها الله مع جارتنا حيث استرقت السمع وعرفتُ أنها ستذهب غدا السوق بحجة شراء غرض ثم تدلف على عجل لترى هذا الفارس المرفوع رأسه بوسط السوق .
تفاجأت والدتي وأنا ممسكة بعباءتها طالبة مرافقتها ؛ وقد غطيتي نفسي بقماش صلاتها الأزرق ، وبه نقوش حمراء .
والدتي تعلم أنه لا وقت وقد تأكدت أنني سمعت حديثها مع جارتنا أم عثمان ولاستعجالها بحيث لا يتضايق والدي من تأخرها فيسألها عن سبب التأخر وحينها لن تكذب عليه ؛ وقد تسمع ما يكدر يومها .
جذبتني والدتي ، وقالت : لا يدري أبوك..
كان الجو باردا ، والأرض مبتلة من آثار مطر أحسست ذلك بقدمي الحافيتين ..
أمسكت والدتي بيدي وانطلقنا إلى السوق حيث الدكاكين ، والباعة ، والمتسوقون ونساء جالسات مع اغراض بسيطة للبيع ؛ غالب بضاعتهن من عمل البيوت ، ومنتجات البقر ، والغنم ..
وقفنا عند دكان يبيع مواد غذائية فطلبت والدتي قليلا من عصفر ، وكمون ؛ وكمية سكر تكلفتها نصف ريال .
وضع البائع : كل صنف بقطعة قماش بالية ومدها لوالدتي .
انتظر الحساب .
بادرته والدتي : أن والدي سيتولى الدفع له. هز رأسه أن عُلِم .
استعجلتْ والدتي فانطلقت بي تحث الخطى حتى لمحتُ ذاك الرأس بظفائره المتدلية .
لم أشعر بالرعب أو الخوف !
بل تراءى لي :
كأنه حكيم أغمض عينيه يستمع لمستهدي أو طالب حاجة .
عجيبة ملامح وجهه لم تعكر صفوه خروج روحه ، ولم تنقبض قسماته فزعاً من حتفه .
فعشقته عشقا لم تمحه السنين ، ولم تُنسني تقلبات الزمان ، والحال مشهده .
تشاغلت عنه سنينا ؛ وهاهو بذكراه ينفض لحظة أن رأيته كأني في سني الرابع عشر ، وأنا اتجاوز الثمانين من عمري .
لعل الله يجعلني ممن عشق فعف فغفر الله له .
لم تلبث أن طواها البِلى بردائه
لتنتهي أعجوبة عشق لرأس قتيل .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى