مقالات مجد الوطن

غربة

محمد الرياني

يعيشُ الحبَّ مغتربًا، لاشيءَ يحميه سوى بعض أغطيةٍ بيضاء تأخذُ معها البردَ والغربةَ ولدغَ مخلوقاتٍ صغيرة تدمي كعبيه، يهربُ من سوادِ الاغتراب إلى سوادِ الليل ليستدفئ بالأحلام، يرى في مناماتِه المواسمَ الدافئةَ فيلقي بكلِّ شيء عليه، يرحبُ بالشمس التي حجبتها عنه الغربة، يرى في أشعتها سطورَ الحبِّ واللوعة، ينسى أنه عاش في الحقيقة ينتفض من هول وفضاعة اللاإحساس وأنه مجردُ زائرٍ حضر ليترك رائحته ثم يأتي مَن يرشُّ عليها مِن بعده مبيدًا لإزالته، ينظرُ إلى تلك التي تعبثُ بكلِّ شيءٍ وهي تضحك على الأشياء كعروسِ بحرٍ تخرج لإيهامِ مَن حولها ثم يبتلعها البحر أو يتهيأ لمن يراها أنها أوقعت نفسها في جنائزيةٍ غيرِ مشهودة ، همسَ لها يومًا بكلمة، قال لها : ويحك!! الأشياءُ من حولكِ لاتستحقُ منك كلَّ هذا التعذيبِ واللعبِ والتنكيل، ضحكت كعادتها متعللةً بأنَّ الجوامدَ لاتعي مايُفعل بها، وأنها كائناتٌ صامتةٌ أوجدها الإنسان فلا داعيَ للتعاطفِ معها أو الشفقةِ عليها، ازدادت عنده لوعةُ الاغترابِ والبردِ من قساوتها وعدمِ إحساسِها، قرَّرَ أن يرحلَ فجأةً وأن يهزمَ الغربةَ ويلقي بالأرديةٍ التي يتدثرُ بها أمامها كي يعودَ إلى الشمسِ لتمسحَ عن جسده ندباتِ البرد وآثار اللسع ، حملَ حقيبةً واحدةً لايوجدُ غيرها معه وَهَمَّ بالمغادرة، انتهبت إليه وهي تمسكُ بالأشياءِ كعادتها، جرت إليه لتودعَه وليسامحَها عن تبلّدها، التفتَ إليها وهو يجرُّ حقيبتَه ولم يجب عليها، اكتفى بالتلويحِ للذين خرجوا لتوديعه، تركَ لهم رسائلَ حبٍّ وودادٍ في المسرحِ الصامت، في ذلك اليومِ أغلقوا الستارةَ الكبيرة وكتبوا على لسانِ المسرح :وداعًا للغربة والمغترب، أعلنوا بأنهم من بعده سيتسامحون مع كلِّ شيء حتى لاتنكسرَ المشاعر، اخترقَ صوتُها جدارَ الصمت، اعترفت بأنها هي السبب، حاولوا اللحاقَ به وهي معهم ولكنه سبقهم للصعود مع الهواء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى