بقلم الدكتور / محمد أبو اليزيد
قبل سبعة عشر شهرا ماتت أمي ماتت ولم أراها منذ عامين وأنا خارج الوطن لكن تذكرت يوم وداعها لي وأنا على سفر قالت تشير بكفها وأنا اركب السيارة: مع السلامة يا محمد، ان قالوا لك ماتت أمك فلا تحزن… كانت تعلم شيئا لا أعلمه، تشعر بشيء لم أشعر به، كانت هناك، وكلنا كنا هنا، كانت تستقبل العالم الآخر يوم كنا غافلين في عالمنا… ماتت أمي ولم اقبل جبينها وهي راقدة في كفنها … ماتت ولم أحملها إلى مثواها الأخير، ماتت ولم أقف إلى الان على قبرها، ماتت ولم أدر أنها وهي في النعش اغتالت أبي بطعنة عمقها ثمانية وخمسين عاما من العشرة والكفاح ثمانية وخمسين عاما بين السهر والتعليم والانشاء والبناء والأبناء…
ماتت وجرح أمي الغائر ينزف اسى تارة يبدو عليه وتارة يبدو عليه جدا…
ظل سبعة عشر شهرا ينزف على جراح العشرة والتاريخ الطويل، والتاريخ لا ينسى…
حاولت ان اخفف عنه، فقابلته في ام القرى لعلي اخفف عنه وعني في فقد أمي…
فوجدت يحمل جبلا من الحزن وتلالا من الأسى كان جلدا صبورا أعلمه جيدا، لكن تلك لم يقدر عليها… فخارت قواه إلا ما تبقى له من إيمان… طاف بالبيت العتيق ماشيا وسجد خاشعا ورأى ولدي وقد ولد هنا ولم تره أمي حيث ماتت قبل الولادة، فكان ولدي سلوته ومفرج بعض همه لكن الجرح كبير…
قلّ كلامه إلا من ذكر الله، راجعته الأوجاع متتابعة تحمل ما لا تتحمله الجبال ووقف بلا شكوى وقوف الرجال حتى دخل المشفى؛ فطلبت أن أحدثه فلم يستطع… الا أنه كان يصلي ويقرأ القرآن كان آخر ما سمعته منه في صلاة العشاء اذ سجلو لي صوته :الفاتحة والإخلاص…
كان لأمي مخلصا ولله عابدا حامدا شاكرا…حتى جاءني الهاتف بتلك المصيبة كسابقتها اذ اخي الاكبر يقول: ابوك في مكان أحسن مما نحن فيه…
عرفته أنه ذهب لله يقابل مولاه وسورة الإخلاص أمامه يرتلها…
استرجعت والحزن يلفني والدموع تنهمر مني… أمي وأبي…
مات أبي يوم ماتت أمي لكن التاريخ مختلف…