الأخبار الرئيسيةمقالات مجد الوطن

*تعدد التأويلات واتساع أفق الرؤى*

*تعدد التأويلات واتساع أفق الرؤى*

*قراءة تأملية في نص “توق” للأستاذة صفاء الأحمد

 

نص “توق” للأستاذة صفاء الأحمد نموذج للنص الذي تستعصي على المتلقي الإحاطة بجميع تفاصيله؛ لأنه نص منفتح على جميع المآلات.

 

نص عميق المعنى، مسبوك المبنى، مكتنز بالمفردات الموحية ذات الظلال التي ترمي بعيدا؛ بحيث يعجز عن رؤيتها القارئ غير المتأمل.

 

يتأرجح النص بين الانتظار- وهو انتظار ما لا يجيء، كما في “انتظار جودو” لصمويل بيكيت – وبين توق وشوق لغائب لن يعود؛ فالشوق إلى الأموات قاتل.

 

نص يُعَد مرثية لميت، اشتاقَ له الأحياء، ولكن هيهات أن يرووا شوقهم وتوقهم، فرمزية النص عميقة وغموضه متأكِّد، لكن من حصافة الكاتبة أنها منحت القارئ مفتاحا لفك شفرة الرمز وتجلية الغموض؛ ليتبيَّن غرض النص، وذلك في المقطع الأخير:

 

دعني أتحدث

كما لو أنك هنا

كما لو أنه لم يحتضنك تابوت.

 

 

يبدأ النص بالنداء ” تعال” وبالغرض من النداء: “نتحدث” ويتبعه بالوصف، أي بيان نوع التحدث، وهو “كما كنا نفعل ” ، وتحديد الموضوعات التي يتحدثان عنها ، وهي عريشتهم وعشهم، وأبيه ، ونساء البلدة، وطفلتهما وحلمهما ، عن أقدام أطفال يلعبون بكرة قماشية، عن الشهاب…

 

النص يتَّسم بالوحدة العضوية؛ فقد أحكمت الكاتبة البناء الفني لنصها، فلم يترهل منها، فكانت كل جزئية تُسلِم لما بعدها في بناء متكامل متماسك.

وبسبب استفحال التوق وتعاظم الشوق، فقد وظفت الكاتبة كل أدواتها الفنية ببراعة؛ تحقيقا لعنوان النص.

 

أتوقف عند ملمح عميق في النص، وهو الاتحاد بين الإنسان والطبيعة، الذي برز في مفردات مثل :

العصافير، القش، القصب، الجداول، الزهور، الحقول …

وتجلَّى في صور بديعة تجسِّد ذلك الاتحاد، مثل هذا المقطع:

لنتحدّث عن

عريشتنا التي

كنا نشيّدها معًا

بينما تجمع لنا العصافير

القش والقصب..

 

 

تميزت الكاتبة بقدرتها على التناول غير النمطي لصور مطروقة، أتت بها في ثوب مختلف، بعد أن خلعت عنها ثوبها الخَلِق البالي ؛ فلنتأمل هذه الصورة الممتدة:

حلمنا الذي

بصقته غيمة

فسالَ مع الجداول

 

ثم تمتد صورة ذلك الحلم:

شربنه الحسناوات

فنبتت على أجسادهن الزهور

وماتت على جسدي القُبل..

 

ويبرز مشهد الجندي المحارب – في تناول غير نمطي تماما -الذي :

ينام في الخنادق

يعاشر البندقية

ويخرج من ظهره الرصاص..

 

 

 

عند النظرة الأولية للنص تبرز للقارئ أغراض، يظن أن النص تناولها، لكن عند سبر أغوار النص العميق يتضح لنا قضية أعم وغرضا أشمل تناولته الأستاذة صفاء، فيمتد التناول إلى قضايا تمس هَمَّ الوطن؛ فتنفتح التأويلات للمتلقي، وهذه هي أهم ميزة يمكن أن يتميز بها نص باذخ، أن يكون نصا احتماليا يستعصي على أحادية التأويل .

 

ثم نلمح أن النص يُعد نصا قصصيا، وعند مزيد من التأمل نجد أن الكاتبة إحدى شخصياته بل بطلة من أبطال قصته.

 

يعج النص بكلمات توحي بالاشمئزاز، وتُشعر بالضجر، ومنها : بصقته… تتقيأ …خبيثة… لفظتك… سم …

 

وفي النص تخالف الأشياء طبيعتها، فلا البحيرة تعكس وجه مَن ينظر إليها، ولا الشمس تنشر الدفء والحرارة:

عن صفحة البحيرة التي

لم تعد تعكس وجهك..

عن الشمس الباردة..

 

 

 

 

 

وتنقلنا أستاذة صفاء بعدستها التصويرية البارعة إلى تشخيص بديع جدا؛ حينما جعلت الشارع حارسا للبيوت، حافظا أسرارها ، رغم أنها -أي البيوت- صارت أطلالا مهدمة:

وأنا أنتظرك

على ناصية شارع

يكلأ أسرار بيوت تهدمت

 

ثم تبرز مفارقة تصويرية عجيبة ، فالمؤثر واحد، ولكن تباين الأثر، ما بين إنبات وذبول، وحياة وموت:

 

فنبتت على أجسادهن الزهور

وماتت على جسدي القُبل..

 

 

تتنوع الجمل في النص ما بين اسمية وفعلية، ولكن يغلب على النص الجمل الفعلية – ففي النص ما يزيد عن الثلاثين فعلا -التي توحي بالحركة والحدوث والتجدد؛ مما ضخَّ الحياة في نص يتحدث عن ميت، وذلك قمة الإبداع.

 

كما طغى استخدام الأسلوب الخبري على الإنشائي، وذلك يناسب طابع النص القصصي، وجاء الإنشاء قليلا، مثل الأمر:

دعني أتحدث

كما لو أنك هنا

 

يزخر النص بالصور الجمالية، ومنها الاستعارات مثل:

الأغاني التي

ذابت في حناجرنا

 

والطباق بين “لمع وغاب”؛ مما يؤدي إلى توضيح المعنى.

والجناس بين “كما، كنا”؛ مما يؤدي إلى جرس موسيقيٍّ تستلذ به الأذن.

تكرار بعض الحروف بكثرة، وبتبادل محكم، مثل “الشين والسين” في جميع النص؛ مما خلق تناغما صوتيا ممتعا، أدّى إلى رفع قيمة المستوى الصوتي في النص.

 

أخيرا أتوقف عند تعبيرها في قولها:

شربنه الحسناوات

وهذه من لغة أكلوني البراغيث، وكان الأفضل أن تقول:

شربتْه الحسناوات.

ولكن تلك اللغة -رغم غرابتها – ورد بها بعض التفاسير في القرآن الكريم عن قوله تعالى: (وأسروا النجوى الذين ظلموا)، وكذلك في شروحات الحديث النبوي الشريف في قوله صلى الله عليه وسلم : ( يتعاقبون فيكم ملائكة…)

 

أقول مرة أخرى إنه نص عميق، غني بالدلالات، مكتنز بالتأويلات، منفتح على كل القراءات؛ فالأديب يبدع نصه، ويخرجه للمتلقي، وللمتلقي -سواء أكان ناقدا أو قارئا -الحرية في فهم تأويلات النص، دون تقيد برؤية الأديب، ودون الالتزام بمراميه.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*طارق يسن الطاهر*

Tyaa67@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى