المدينة المنورة – ماهر عبدالوهاب
خطب وأم المصلين في المسجد النبوي فضيلة الشيخ الدكتور عبدالباري بن عواض الثبيتي إمام وخطيب المسجد النبوي الشريف
وبعد أن حمد الله بدأ خطبته قائلًا: هذه نسائم العشر الأواخر قد أقبلت، ونفحاتها قد اقتربت، وأنوارها قد لاحت، ونفوس الصالحين لفضلها متشوقة.
وعندما يجول المرء بخاطره ويعود بذاكرته متأملًا سيرته في الأيام الخوالي مستحضرًا ضعفه وتقصيره وغفلته وذنوبه وتفريطه، فإنه لا يملك في مثل هذا الموسم إلا أن يستحث همة نفسه، ويجدد عزم فؤاده، ويفيق من رقاده، وينفض عن كاهله ثياب الكسل، ليتدارك ما فات، ويستثمر ما هو آت، وهنا تتفاوت الهمم ويتفاضل أهل العزائم، فهناك من يجعل في كل لحظة غنيمة، وفي كل دقيقة فضيلة، ويتقلب في نعيم العبادة ما بين تسبيح وتهليل وحمد وتكبير وقيام وذكر وقراءة للقرآن وتفكر.، هؤلاء الذين عرفوا قيمة هذه العشر، يعيشون بها وفيها وتحت ظلالها لذة العبادة، وأنس القرب، وجمال التلاوة، وطعم الإيمان، ونفحات الرحمن، أرواحهم تحلق، وأنفسهم تتزكى، وقلوبهم تترقى، وهذه أجل حكم الصيام (لعلكم تتقون).
هذه العشر أنفاسها محدودة، ولحظاتها معدودة، وساعاتها سريعة، وأيامها تمضي ما بين غمضة عين وانتباهتها، وأولو البصائر يعالجون هذه العشر بهمة وقادة، ويقظة عالية، وانعتاق عن مشاغل الدنيا وهمومها.
حكت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حال الرسول صلى الله عليه وسلم في رمضان بكلمات بليغة، وجمل قصيرة؛ أحاطت بالمقصود فقالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله).
ليكون هذا المنهج نبراسًا للأمة، وهديًا للتائبين، ومسلكا للطائعين، وملاذا للمذنبين، ورقيًا للمؤمنين
وأضاف فضيلته: وفي ليالي العشر تحلو المناجاة، ويخلو العبد بسيده ومولاه، يبث همومه وينثر أحزانه، وينفث شكواه، ويرفع لخالقه آماله، يعترف بذنبه، يقر بخطئه، يعلن توبته، يسكب الدمع مدرارًا، يملأ قلبه خشية ورجاء وذلًا وانكسارًا، يدعو تضرعا وخفية، فلا رب لك سواه، ولا يجبر الكسر إلا هو، هنا يستجاب الدعاء، وتتنزل النفحات، وتستمطر الرحمات؛ قال تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان).، وفي الحديث: (إن الله حيى كريم يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفرًا خائبتين)، فاشتر نفسك والسوق قائمة، والثمن موجود، ولا تسمعن حديث التسويف.
وأكمل: وفي ليلة القدر يقول الله تعالى: (ليلة القدر خير من ألف شهر، تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر، سلام هي حتى مطلع الفجر).، هل يتصور الصائم عظم الأجر؟!! خير من ألف شهر، وهل تصور القائم بين يدي الله هذا المشهد المهيب والحشد العظيم؛ تتنزل الملائكة وجبريل لعظم هذه الليلة، نزول يحتضن كلمة السلم والأمن والأمان بل كل معاني السلام؛ هي خير كلها ليس فيها شر، سالمة من كل آفة وشر،لكثرة خيرها إلى مطلع الفجر، والملائكة تسلم على أهل المساجد حتى يطلع الفجر. ليلة سمحة لا حارة ولا باردة،
ليلة مباركة خير كلها من ابتدائها حتى نهايتها بطلوع الفجر. هي سلام على أولياء الله واهل طاعته، هذه الليلة يظلها ويشملها السلام المستمر والأمان الدائم لكل مؤمن يحييها في طاعة الله تبارك وتعالى إلى أن يطلع الفجر. ولا يناسب هذا الفضل العظيم والأجر الجزيل، سوى التشمير عن ساعد الجد، والعمل الدؤوب، ومفارقة المألوف مع صبر ومصابرة.
سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن وافقت ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: قولي: “اللهم إنك عفو تحب العفو” رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد واللفظ له، فالله عفو ويحب العفو سبحانه؛ لم يزل بالعفو معروفا، وبالغفران لذنوب عباده موصوفا ثم يدعو المسلم فاعف عني؛ وإذا حل عفو الله بك أسعدك و أدهشك وطهر جسدك وقلبك وروحك، ورضي عنك وأرضاك.